Atwasat

بريطانيا: سقوط جدار اللون

جمعة بوكليب الخميس 18 أغسطس 2022, 11:16 صباحا
جمعة بوكليب

لا أريد الخوض في شرح وتحليل العلاقة بين الفضول وموت القط. والسبب، أن الفضول أنواع وكذلك القطط. إذ ليس كل القطط تُقتل بسبب فضولها، رغم أن الفضول سمة تميزها جميعاً، إلا أنني أراهن على أن نسبة كبيرة منها تقتل نتيجة نقص ملحوظ في نسبة الفضول لديهم ونوعه. وهذا رأي شخصي جداً.

المثل المشهور الذي يحذر من مغبة الفضول، ويدعو إلى تجنبه، يقصد نوعية معينة ومحددة من أنواع الفضول العديدة، ولا علاقة له، في الحقيقة، بالفضول المعرفي، الذي كان، ضمن أسباب أخرى عديدة، وراء ما حققته البشرية من إنجازات في مختلف العلوم والمعارف، وما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تطور.

هذا النوع المحدد من الفضول كان الدافع والمحفز لي شخصياً على متابعة العملية السياسية في بريطانيا، والاقتراب من تفاصيلها المتاحة أمامي، وإلى أقصى الحدود الممكنة، على أمل الخوض في مسالكها المتعرجة بلا خوف من ضياع، ونزع الحجاب عن آلياتها المعقدة، رغم ما يكتسيها من وضوح خادع. بل وكان السبب وراء حرصي على اختيار دراستها أكاديمياً. التقاء الرغبة الفضولية بالتحصيل الأكاديمي فتح أمامي أبواباً، وسبلاً ما كنت أظن أنها توجد، وتتاح لي فرصة الاقتراب منها، دع عنك السير فيها، والالتقاء، وجهاً لوجه، ببعض من رموزها، لعبت أدواراً تاريخية، ونالت نصيباً وافراً من اهتمام المؤرخين.

ومن حسن حظي أنني، عقب فترة زمنية، تعد قصيرة جداً، من وصولي لبريطانيا، كنت من بين المتابعين لواحدة من أكبر المعارك التي خاضها حزب المحافظين لاختيار زعيم له، ليكون خليفة السيدة مارغريت ثاتشر. كانت تلك المرة الأولى التي أشاهد فيها معركة زعامة حقيقة، يسقط فيها قتلى وجرحى، من دون استخدام سلاح، ومن دون سكب قطرة دم واحدة. وعرفت، وقتئذٍ، أن القتل في ميادين السياسة أشد وأمر من القتل في ميادين المعارك الحربية، لأن الطعنات تأتي من كل الجهات، خاصة الصديقة والحليفة منها.

الانتخاباتُ الحالية الدائرة لخلافة السيد بوريس جونسون على زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، منذ إجباره على التنحي في الشهر الماضي، معركة أخرى قد لا تختلف عما سبقتها من معارك سابقة، إن لم تكن أكثرها ضراوة، لأن المرشحين المتنافسين يقفان على رأسي فريقين متنازعين على الوجهة التي سيأخذها الحزب في الأعوام المقبلة. والمؤشرات الحالية تشير إلى أن مرشحة جناح اليمين في الحزب، من يمثلون غلاة أنصار «بريكست»، ووزيرة الخارجية الحالية السيدة ليز ترس تعد الأرجح في الوصول إلى خط النهاية قبل منافسها وزير الخزانة السابق ريشي سوناك، والفوز بزعامة الحزب ورئاسة الحكومة.

الانتخابات الحالية تكتسي بأهمية تاريخية. ونحن شهود عيان على منعطف سياسي تاريخي، يحدث للمرة الأولى، وممثل في وجود مرشح ليس أبيض لون البشرة، ومن الأقليات، وهو السيد ريشي سوناك. ولو كان الأمر متروكاً للتمني، لكنت تمنيت فوزه، لأرى شاباً طموحاً، من أصول هندية، يتوج زعيماً لواحد من أقدم وأعرق الأحزاب السياسية في العالم، وفي دولة عرفت الديمقراطية منذ أكثر من 300 عام، أي قبل ظهور الولايات المتحدة الأميركية على خريطة العالم دولة مستقلة. لكن كما قال، ذات يوم، أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً. وهذا يعني، وفق المعطيات المتوفرة واستبيانات الرأي العام، أن حظوظ السيد سوناك في قطف الثمرة المرجوة آخذة في التقلص والانكماش، وأن التاج الموعود سيوضع، يوم 5 سبتمبرالمقبل على رأس السيدة ترس.

ومن خلال المتابعة اليومية للمعركة الانتخابية الدائرة، مدفوعاً بالفضول، يمكنني القول إن اختلاف التكتيك للمعركة كان السبب وراء تقلص حظوظ السيد سوناك في الفوز. ومن خلال المناظرات التلفزية التي شاهدتها، اعتمد تكتيك السيد سوناك خطة لا تقوم على امتلاك المبادرة بالفعل، بل على رد الفعل. ولتوضيح ذلك، يلاحظ المتابع للمعركة أن السيدة ترس هي من يقود المعركة وبثقة، من خلال جرأتها على طرح أفكارها وبرنامجها الانتخابي سياسياً واقتصادياً، في حين اقتصر دور السيد سوناك على محاولة التعرض لتلك الأفكار والبرامج، ومحاولة كشف ما يعتريها من نقص، وما بها من عواهن، من دون أخذه قصب السبق في المبادرة، وطرح أفكاره وبرنامجه. وتكرر ذلك في كل المناظرات التي جمعتهما. وحتى في حالة خسارته، وخروجه من المولد الانتخابي بلا حمص، يظل من المهم الإشادة بحزب المحافظين البريطاني على مبادرته بكسر التابو السياسي، عبر هدم جدار اللون، وفتح الباب على مصراعيه أمام الشباب الطموح من أبناء الأقليات، ليتقدموا الصفوف، ويحققوا أحلامهم وطموحاتهم، في صعود درجات الترقي، ونيل أعلى المراتب السياسية، اعتماداً على قدراتهم وإمكاناتهم، إن أرادوا.

السيد سوناك كان الأول، وبالتأكيد أن هناك كثيرين أمثاله يتابعون ما يحدث، ويعدون أنفسهم مستقبلاً لخوض معارك الزعامة، بعد سقوط جدار اللون، كما سقط قبله جدار برلين، وعلى نفس الأهمية.