Atwasat

يا تقنعني يا نقنعك!

صالح الحاراتي الأربعاء 17 أغسطس 2022, 11:24 صباحا
صالح الحاراتي

قد يبدأ البعض حديثه معك بترديد تلك الجملة الشهيرة بأن «الاختلاف لا يفسد للود قضية».. وبعد مضي الحوار لدقائق معدودة يتجه إلى عبارة أخرى تؤكد أنه ليس في قاموس عقله إلا أحادية الرأي: «يا تقنعني يا نقنعك»! أي أنه قرر مصادرة العبارة السابقة التي تجيز اختلاف الآراء دونما إفساد لوشائج الود، وأظن أن عبارة «يا تقنعني يا نقنعك» تخفي وراءها عقلا يرفض الراي الآخر ويؤمن خفية بمبدأ الغلبة ليصل إلى «يا ترومني وإلا نكسر قرنك»!!

ومع استمرار الحوار، غالبا ما تفشل محاولتك لفت انتباهه إلى أن فهمك أو فهمه لأي نص ليس بفهم مقدس وأن لك وله الحق في أن يكون له ولك فهمك الخاص ولكن لا يحق لأي منكما إلزام الآخر بذلك الفهم.

في الواقع إقناع الناس بالأفكار ليس شيئاً بعيد المنال؛ ولكنه يحتاج إلى فن وفكر ومهارة، فالناس يمكنهم أن يتخلوا عن أفكارهم بمحض إرادتهم إذا أقنعتهم بها (دون اكراه) وبغير استعلاء، فتغيير القناعات لا يمكن حصوله بالضغط أو بالإلزام أبداً؛ بل تتغير القناعات بالرضا والقبول، وبالإثبات والبرهان، وبالجاذبية والتقريب، وليس بتلك العبارة الحدية «يا تقنعني يا نقنعك»، الفاشل فقط هو الذي يجادل عن رأيه أبداً، ويعتمد على قهر الناس والسخرية من آرائهم لإقناعهم، وما هو بفاعل ولو ظل يجادلهم ألف عام.

الأصل في العلاقة مع الآخر هو التعارف والتعايش وليس العراك لأجل أن يكونوا نسخة واحدة.

نعود للإقناع الذي هو فن أكثر منه علماً، برغم وجود العديد من الدراسات والأبحاث حول موضوع الإقناع، وهو من أكثر الفنون المندرجة تحت فنون مهارات الاتصال والتواصل، حيث يعتبر أسلوب الإقناع هو قدرة الشخص على إيصال المعلومة للطرف الآخر وإقناعه، مع ملاحظة أن الاقتناع ليس بالضرورة أن يكون حقيقيا.. فهناك الفئة الانتهازية التي تتنازل عن قيمها ومبادئها بسهولة، مقابل الحصول على منفعة أياً كان نوعها.

إن تغيير القناعات أمر مقبول، بل مطلوب في كثير من الحالات، أما القيم فهي الثوابت التي لا تتغير بسهولة، حيث يمكن للإنسان أن يغير قناعاته حسب التغيرات التي يتعرض لها في حياته، كإحدى آليات التعايش والتكيف مع البيئة الاجتماعية تبعا لتطور معارفه.

وما هذه السطور إلا تعليق على ممن التقيتهم ورددوا جملة:
«يا تقنعني يا نقنعك».. فقلت لهم أنا أعتقد أن ذلك ليس ضرورياً ولا شرطاً وغير ذي أهمية، فالمهم هو أن نستمع لكل الآراء وأن نقبل التعايش مع بعضنا البعض.. أعجبكم رأيي ، ذلك أمر جيد وإن لم يعجبكم فذلك أمر جيد أيضاً فليس من العدل أن نكون كلنا نسخاً مستنسخة..

لا أنت نسخة مني، ولا أنا نسخة منك.. أنت مسؤول وأنا مسؤول عما أعتقد وأرى..

في السياسة وفي ما عداها.. وليس من الصواب أن تعتقد إما أن أكون على رأيك وعندها أكون «صاحبك وأحسن واحد» وعندما أكون علي غير رأيك تعتبرني عدواً لك..

ذلك نمط تفكير قاصر وطفولي.. فليس من الضروري أن تقتنع بما أقتنع به أو أن ترى ما أرى.. ويفترض أنك تعرف الناس للتعايش معهم وليس بالضرورة لكي يصبحوا نسخة منك..! فالدول والمجتمعات الحديثة لم تحقق تقدمها وسلمها الأهلي إلا بنشر ثقافة التعايش والتسامح والتعددية.