Atwasat

الصينوفوبيا

سالم العوكلي الثلاثاء 16 أغسطس 2022, 01:14 مساء
سالم العوكلي

الحديث عن صراعات كبرى تحرك العالم، ليس حديثاً عن شؤون دولية فقط، لكنه في صميم الحديث عن مسائل محلية، وفي شؤون تغمر الحياة اليومية لكل مواطن في هذه الأرض وداخل بيوتنا، فسعر الدولار هو ما يحدد قوتنا الشرائية وقوتنا اليومي، والمنتجات الصينية تغمرنا كطوفان هادر، وربما يكون مستقبل النمو والتنمية في ليبيا مرتبطاً بمشروع الحزام الصيني الكوني مستقبلاً، والصراع في أوكرانيا يرفع أسعار الغذاء في كل العالم، ويجعل خبزنا اليومي مرتبطاً بحقول القمح في روسيا وأوكرانيا.

استطراداً للمقالة السابقة عن «الخطر الأصفر» الذي تحذر الولايات المتحدة العالم بأجمعه منه باعتبار الشر هو النقيض الموضوعي لرؤية الغرب للعالم، أحاول هنا أن أجادل بخصوص الرؤية الأميركية لنهاية التاريخ انطلاقاً من تعاملها الحالي مع الصين؛ التي قررت، منذ نهاية الثمانينيات، أن تنصاع لشروط هذه الحضارة في ما يخص السوق الحرة والمنافسة الناعمة في ميدان الاقتصاد العولمي، دون أن تتخلى عن جوهر عقيدتها الذي يمزج بين «الكونفوشية» و«الاشتراكية المحدثة»، ورغم هذا الالتحاق بالشرط الرأسمالي للمنافسة، مازال الناطقون باسم البيت الأبيض والبنتاغون يؤكدون خطر «الحزب الشيوعي» في الصين على العالم، وكأنهم يتحدثون عن الاتحاد السوفياتي فترة ستالين، والفارق كبير وجذري، غير أن بعبع الشيوعية أحد الأشباح التي يطلقها الإعلام الغربي من أجل حشد الرأي العالمي ضد المنافس، مثلما استخدمت شبح الإرهاب بغلو كي تُطْبق على مناطق كثيرة في العالم وتجتاحها دون الحاجة إلى ترخيص.
إبان ذروة الحرب الباردة، في عقدي السبعينيات والثمانينيات، استخدمت الولايات المتحدة التنين الصيني الصاعد، كقوة لضرب الاتحاد السوفياتي باعتبار العداء بين الأيديولوجيا السوفياتية ونسختها المعدلة في الصين، وفي تلك الفترة كانت تسمي ــ ما تسميه الآن الخطر الأصفر ــ انتعاشَ الصين، ولولا النموذج الصيني المبهر لما استطاعت الولايات المتحدة أن تسهم في تفكيك الاتحاد السوفياتي، القوة الكبرى التي افتتحت غزو الفضاء وبنت إحدى أقوى الترسانات العسكرية، لكن اقتصادها ظل ضعيفاً كأي اقتصاد دولة في العالم الثالث، وقزماً أمام اقتصادات الدول الكبرى، ما نبه الجيل الجديد من الثوريين في الحزب الشيوعي السوفياتي إلى الطريق المسدود الذي يتجه صوبه الاتحاد، وكان لاستراتيجية «البريسترويكا» و«الغلاسنوست» المطبقة في الصين دور في هذه الانعطافة التي فككت الاتحاد السوفياتي، غير أن السحر انقلب على الساحر، حين تحولت الصين من أداة تلعب بها أميركا إلى قوة اقتصادية عظمى ثم عسكرية بدأت ترغم أميركيا على الدخول في حرب باردة من نوع آخر، وأخطر من حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي.

الاقتصاد الصيني تسونامي حقيقي ترتفع أمواجه كلما تقدم، والتنبؤ بتسونامي لم ولن يمنع وصول أمواجه العاتية إلى أراضي الاقتصاد الأميركي المكشوفة، وأمام هذا الاجتياح لم يكن في وسع القوة الاقتصادية الأولى في العالم سوى أن تحسب خسائرها تباعاً، وأن تحاول التنفس داخل طوفان المنتجات الصينية التي تغمرها، وأن تطالب بعودة الشركات الأميركية الكبرى التي نزحت جراء تسونامي إلى أرض الصين المغرية والخصبة لكل استثمار، ولم تؤتِ كل العقوبات الأميركية أكلها مع اقتصاد مشتبك ومتشعب، عقابه يعني عقاب الذات.

حين استبدل الساسة الأميركيون تسمية «انتعاش الصين» بـ «الخطر الأصفر» تجاهلوا في الواقع إنجازات مهمة حققتها الصين من المفترض أن تكون ضمن الشعارات الأميركية المرفوعة تجاه شعوب العالم، وهي تتدخل في سياساتها أو تجتاج أراضيها وتحتلها، غير أنه لو تحققت أي سعادة في جزء من العالم من شأنها أن تنافس الهيمنة الأميركية، فهذه السعادة أو هذا النجاح سرعان ما تتحول تسميته إلى خطر أو إمبراطورية شر، ومن المهم في هذا السياق أن أُضمِّن هذا الاقتباس المهم من كتاب «التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين»*، حيث يشار هنا بانتباه إلى ما غاب عن أنظار الساسة الغربيين من إنجازات «حقيقية ومذهلة ومستدامة» حققتها الصين خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وحين كانت الصين الحليف الآني والعدو المؤجل للولايات المتحدة، إبان الحرب الباردة. وأهم هذه الإنجازات الصينية المذكورة في الكتاب:

ــ أخرجت الصين (خلال هذين العقدين) قرابة ربع سكان العالم من الفقر والتخلف، وضاعفت إجمالي المنتج الاقتصادي بأسرع مما حدث في أي اقتصاد كبير في العالم.

ــ خلقت سريعاً طبقة وسطى يعتد بها، يبلغ إجمالي عددها عدد سكان أميركا، وارتفعت دخولها الحقيقية بسرعة تعادل عشرة أمثال سرعة ارتفاع الدخول الأميركية الحقيقية في التسعينيات.

ــ ألغت الملكية الجماعية (الكوميونات)، التي تمثل واحداً من أكثر النظم الاقتصادية المعتمدة على التخطيط المركزي في التاريخ، وحولت جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي نحو آليات السوق، بينما رحبت بالمشروعات الأجنبية لتحتل مركز القلب من الاقتصاد الصيني.

ــ الحفاظ على المشروعات المملوكة للدولة التي تتسم بالعجز وربما تصل إلى حد الإفلاس، وأبقت عليها للحيلولة دون أي اضطراب اجتماعي ناجم عن أسلوب «العلاج بالصدمات». وبدأت في تحويل مركز النشاط الاقتصادي تدريجياً إلى اتجاه القطاعين الخاص وشبه الخاص، والذي يشغل الآن نصف المنتج الاقتصادي الصيني.

ــ ابتدعت أدوات تآزر كافية لسياسات اقتصادية كلية «ماكرو» حتى تتمكن من ترويض التضخم المنفلت، الذي ظن أكثر خبراء الاقتصاد أن لا سبيل إلى ترويضه. وأسست نظاماً فعالاً للصيرفة المركزية، وأسواقاً سلعية وتمويلية حديثة النشأة، وسوقاً عقارية حقيقية، ووصلت بالعملة إلى حد قابلية التحويل الدولية الكاملة.

ــ طورت نظاماً شاملاً للانتخابات الحرة التنافسية؛ لشغل آلاف المناصب المحلية، ويتحول هذا تدريجياً الآن من مستوى القرية إلى المدينة. وتعمل على توسيع السلطة التشريعية ونوعية الحوار داخل «مؤتمر الشعب الوطني»، وتستصدر القوانين للحكم في عشرات القضايا التجارية والمدنية الرئيسية، التي كانت تشملها في السابق قوانين غير مكتوبة.

ــ تسمح بالتوسع الكبير في وسائل الإعلام، وتوفر قدراً من حرية التعبير والحصول على المعلومات، وهو ما لم يحدث في تاريخ الصين. وتعمل على زيادة الخيار الاستهلاكي والحراك لقوة العمل، كما تسمح بقدر كبير من الحريات الدينية والشخصية، وحريات في اختيار أسلوب الحياة.
ــ تم الانتقال إلى مرحلة ما بعد دنغ هيساو بنغ دون عمليات تطهير أو أعمال عنف، مما جعل هذا الانتقال هو أول تغيير يتم بسلاسة في تاريخ الصين على مدى القرن العشرين.

هذه الإنجازات التي يرصدها مؤلفان أميركيان، تمتعا بخبرة أكثر من خمسين عاماً من التنقل في أرجاء الصين، والمشاركة في عديد المشاريع الكبرى، لا يمكن التطرق إليها إلا في مؤلف نوعي وموضوعي مثل هذا الكتاب، لأن ما يسيطر على الميديا الكونية شركات غربية تعمل بتضافر على تشويه وتمشيط أي نجاحات تحققها أمم مستقلة خارج الحاضنة الغربية، وتختزل هذه الأمم في كونها خطراً على البشرية أو محاور شر. وهي إنجازات تعرض ما تم في آخر عقدين من الألفية الثانية (1979 ــ 1999)، وما حققته الصين من إنجازات في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خلال عقدي الألفية الثالثة أضعاف ما تم ذكره، إضافة لتطويرها الهائل لقوتها العسكرية واندماجها القوي في اقتصاد المعرفة والبرمجيات الحديثة، وهو الأمر الذي يقلق أميركا وأتباعها الغربيين، ويثابرون على طمس هذا النموذج الناجح الذي استفاد من نظام الجدارة في اليابان وفي سنغافورا كبديل للنموذج الأميركي الذي تحاول أن تعممه على العالم، وهي لن ترضى عن الصين حتى تكون شبيهة لها وتابعة لها مثل الدول الأوربية التي تأتمر بأمرها.

لا يمكن للصين أن تكون شبيهاً لأميركا أو أي دولة غربية أخرى، على الأقل لأسباب وجودية تتعلق بالموارد الكونية ومصير الكوكب، ويضربان أمثلة على مثل هذه الاستحالة: «إنه إذا ما قدر للصينيين أن يثروا بما فيه الكفاية، لكي يمتلكوا السيارات الخاصة بهم على نحو ما هو حادث في أميركا، فإن استهلاكهم لوقود السيارات سوف يستنزف سريعاً القدر الأكبر من احتياجات النفط المعروفة، بينما سوف يختنق العالم بالتلوث. وإذا ما تهيأت الفرصة للصينيين للحصول على الطعام الكافي: من حيث نصيب الفرد من اللحوم، مثلهم مثل الأميركيين، فسيحدث عجز في المراعي اللازمة على كوكب الأرض؛ لتلبية حاجات البشر. وإذا أكل كل صيني من السمك قدر ما يأكله الياباني، فإن الصين سوف تستهلك ما يعادل، من حيث الحجم، إجمالي الصيد من الأسماك على نطاق الكوكب. ويستطيع المرء أن يمضي أكثر وأكثر، في عرض أمثلة للطرق غير المسبوقة، التي ستؤثر بها الصين في بقية البشر في العالم».

* دانييل بورشتاين وأرنيه دي كيزا: «التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين». ترجمة: شوقي جلال. منشورات سلسلة عالم المعرفة 2001.