Atwasat

نص الترميز الفائق

محمد عقيلة العمامي الإثنين 15 أغسطس 2022, 11:29 صباحا
محمد عقيلة العمامي

(1)
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي توقفتْ إلى حد كبير حركة الإبداع الثقافي في ليبيا، مباشرة من بعد خطاب زوارة سنة 1973 الذي نفذت على أثره عدة برامج للثورة الثقافية، واستمر هذا التوقف طوال الثمانينيات. في التسعينيات بدأت ثغرات انفراج ثقافي، وظهر جيل من كتاب شباب، أسماهم المرحوم الأديب على مصطفى المصراتي (التسعينيون) لتمييزهم عن جيل الثقافة الليبية المبكرة، في العهد الملكي وأيضا في عهد سبتمبر. كنت قد بدأت في تلك الفترة الكتابة المنتظمة، وأصدرت عددا من الروايات والقصص القصيرة، وانتظمت في الكتابة الصحفية، ولذلك عندما سئلت ذات حوار، إلى أي من الأجيال أنتمي فأجبت سريعا: «أنا من التسعينيين!»، فالكاتب منطقيا يصنف بوقت إصداراته.

الكتابة في تقديري، ومثلما وصفت من قبل كجمرة تحت الرماد، ما إن تجد من يحركها، من عاصفة كانت أم نسائم صيفية تشتعل بمجرد أن تصل إلى (زاد) سواء أكان أعشابا جافة أو غابات حية.

سنة 2004 أعلنت (فرونتيرز) وتعني الحدود: وهي مجلة أكاديمية مفتوحة مجالها المقالات العلمية والأدبية التي تناولتها الأوساط الأكاديمية، بالدراسة والبحث، أعلنت فيما تناولته مجلة دراسات المرأة أن الكاتبة روبي هيمينواي (1884- 1987 Ruby Hemengway): «أقدم كاتبة عمود صحفي في الكون كله» جاء في مقال نُشر العام 1984 في مجلة (يانكي) وكان عمرها، حينئذ، 100 عام بالتمام والكمال! وأصدرت بعده عددا من المقالات! تناولت مقالاتها حقائق منسية عن الحياة في منطقة (نيو إنجلاند) بل وأصبح ما تكتبه مصدرا رئيسيا لقاموس اللغة الإنجليزية الإقليمية الأميركية، نظرا لتناولها ولشرحها تسميات محلية قديمة.

فعلى سبيل المثال اقترحت في مقال لها أن تسمى الزهور البرية بأسماء تميزها عن بعضها البعض، فقالت: «جميل أن نسمى الزهور البرية غير المعروفة بأسماء، تماما مثلما نسمى، أصدقاءنا». إن اهتمامها بأسماء الزهور، كان من مواضيع ترسيخ تفاصيل الوجود اليومي بشكل عام، لم يكن مجرد عقيدة قديمة، بل تحديا متعمدا للتاريخ كما يمارس.
عهدناها تقدم لنا نسخة من الماضي تتم فيها خدمة المصالح المحلية قبل المصالح الوطنية. لقد أنتجت مئات الصفحات من الذكريات، وهي أصيلة للغاية في نبرتها الشخصية واتساع نطاق المعلومات التاريخية.

عمودها عنوانه (أتذكر متى... ) متى حدث ذلك الحدث بتفاصيله وتفاصيل المكان، حتى بعد رحيلها لم ينقطع عمودها هذا، متناولا المكان والزمان والأحداث الكبيرة منها والصغيرة وكانت في مجملها شكلا من المذكرات والتأّريخ الشعبي والكتالوج القديم للمكان الذي عاشت فيه.

إن قراء «أتذكر عندما...» الذين يبلغ عددهم عشرات الآلاف، تعلموا حينها ما عرفه الكثير منا مؤخرا، من بعد مناقشات علمية عديدة لأبحاث تناولت ما تذكرته الكاتبة روبي هيمنيواي، ما بين منتصف سبعينيات ومنتصف ثمانينيات القرن الماضي، كانت قد كتبت كل مقالة بخط يدها، وسلمتها مباشرة إلى محررها، الذي كان يقوم أسبوعيا بزيارتها لاستلامها. وبعد تقاعدها طُلب منها تجميع مقالتها، فكان كتابها (Greenfield Recorder) بمثابة مذكرات للتاريخ الشعبي القديم لمنطقتها، فأصبح مرجعا حقيقيا.

(2)
يختتم كتاب «أعظم 100 عالم غيروا العالم» للكاتب (جون بالتشين)، والذي ترجمته آمال إبراهيم، والذي نشرته دار الكتب العلمية، بالعالم الإنجليزي الذي لم أعرف عنه شيئا من قبل واسمه (تيم برنرز لي) المولود سنة 1955، وعرفتُ أن أهم ابتكاراته مصطلح كثيرا ما يصادفني في تصفحي اليومي للفضاء الإلكتروني، وهو (HTML) من دون أن أعرف أنه: «اسم للغة السهلة التي ابتكرها هذا العالم وهي نص الترميز الفائق، الذي بواسطته يستطيع المؤلفون تحضير وثائقهم بصيغة موحدة، مع الروابط الضرورية، وهي طريقة لربط الصفحات عبر الإنترنت وفق بروتوكول نقل النص الفائق (HTTP)، ومنظومة معالجة للتعرف على الصفحات والوصول إليها من عنوان الإنترنت (URL)..» – النص نقلته إليكم كما هو من الموضوع الذي كُتب عن العالم الذي أشرت إليه.

ولقد أوردته بسبب المصطلحات المبينة بين الأقواس والتي أراها شخصيا كثيرا من دون أن أفهم ماذا تعني، ولا أشك مطلقا أن أغلبكم مثلي لا تعرفونها، فما بالكم باسم العالم الذي ابتكرها وهو شاب! والمصطلحات هذه هي العلم الذي جعلني أعرف قصة (الكاتبة روبي هيمينواي) بنقرة واحدة في نص (الترميز الفائق) الذي أشرت إليه طالبا حكاية: «أقدم كاتبة عمود يومي في الصحف» والتي كتبت حتى بعدما تجاوزت من العمر 100 عام!
حسنا!

نحن أمة لا تريد أن تقتنع أن التوثيق هو القاعدة التي تؤسس الدولة عليها كل شيء، فالخطوة الأولى نحو العلم، أن يوثق كل شيء، من أعمال الرموز الوطنية، والقادة الأنقياء، والشرفاء، والمبتكرين، والعلماء وأيضا أراشيف الإجرام والمجرمين. وأنه لا يحق لأي تغير يحدث أن وثائقيات من سبقه. التاريخ كله ينبغي أن يوثق كما هو بالسالب منه والموجب. بالغث والسمين بالأنقياء والمشوهين. عندها يكون (الترميز الفائق) مؤسسا على حقائق، وبالتالي يقودك إلى الحقائق المطلقة. ذلك هو العلم: الرصد والتوثيق، التجربة والملاحظة وصولا إلى الاستنتاج، ولعله من المفيد أن أقول لكم أنه ليس من بين المئة عالم الذين غيروا العالم سوى عالم واحد يرى الناس أنه منا، وهو طيب الذكر محمد ابن موسى الخوارزمي!