Atwasat

عبد المولى دغمان: مطاريدكم عندنا!

سالم الكبتي الأربعاء 10 أغسطس 2022, 10:51 صباحا
سالم الكبتي

«الذاكرة البشرية سريعة الزوال مثل ولاية الأحمق».
سمير عطالله

كان الأستاذ عبد المولى دغمان مديراً للجامعة الليبية، استلم مهامها في اليوم الرابع من يونيو 1967، كانت المنطقة تغلي وتقترب من الحافة، بلغ الخطاب والجنون مداه، وظلت المنطقة تلتهب إلى أن حدث الانفجار والانكسار، وبدأ الحديث عن النكسة يسري في الأمة من محيطها إلى خليجها، كان ما حدث نتيجة طبيعية لما يجب أن يحدث، وكان الأستاذ قد عاصر مع جيله الاقتراب السريع والانحدار نحو الهاوية وعرف أن السوس ينخر في عظام الأمة وتمكن من أجيالها التي يفترض أن تصنع المستقبل.

وأيامها شهدت الجامعة في فترة إدارته لها انطلاقاً وتحديثاً وتطوراً باتجاه الأفضل، يختلف عن مراحل سابقة مضت، وظل الحماس يغمره لأن تكون الجامعة من أفضل المؤسسات في الدولة، في ليبيا التي اجتازت أعتاب الاستقلال بمزيد الخوف والتخلف وعذابات الحرب، ورأى مثل كل المتنورين أن لا نهوض للوطن وسعادة مواطنيه إلا بالعلم وتوطينه، وعلى هذا الأساس كان يؤمن بالدولة والحرية، وأن ذلك التقدم المنشود لا يتحقق على الأرض من دون الاهتمام بالتعليم والحرص عليه، ونشر قواعد الالتقاء وليس التنافر أو التباعد بين أفراد الوطن دون استثناء.

كان الأستاذ عبدالمولى من الجيل الذي نال فرصة قصيرة من التعليم قبيل الحرب العالمية الثانية، وفي أحوال معقدة اعتراها كل صعب ثم لتتوقف الدراسة أيام الحرب وينقطع الصغار عن مواصلة التعلم وينزحوا مع أسرهم خارج المدن وأماكن إقامتهم، وحين توقفت نيران المدافع والغارات وفي ظروف أخرى بالغة الصعوبة استمر وجيله الذي انعتق من أهوال الحرب لكنه في الوقت نفسه لم ينجُ من تداعياتها الأليمة في النفوس، استمر في الدراسة وكان الرواد من المعلمين الوطنيين يتولون أداء الرسالة بكل انتماء ومحبة عبر مبانٍ متهالكة وخرائب قديمة، وهذه الصور ظلت تعلق بتفكيره على الدوام، مؤكدة أن الحرية والتعليم عندما يتلازمان ولا ينفصلان يقودان إلى التغيير وبناء الإنسان.

حين أُوفد للدراسة في جامعة القاهرة في العام 1953 انصرف إلى دراسة علم الاجتماع في وقت كان فيه الاهتمام لدى الكثيرين بالاتجاه نحو دراسة الأدب والقانون والطب، وعى جيداً أهمية دراسة المجتمع وكل جوانبه ووجد أمامه أستاذاً مهيباً ظل يجله هو الأستاذ حسن الساعاتي، كانت أياماً يلمع فيها الفكر وذوو العقول والأساتذة قبل أن تطغى أيام يسود فيها حفنة من المجرمين واللصوص والشواذ على امتداد العالم.

وفي جانب آخر ظل العالم العملاق، ابن خلدون مصدر إعجابه ومبعث تقديره، واستوعب الكثير من رؤاه في التاريخ والمجتمع وأقواله المتجددة عبرالزمن، الآتية من بعيد، منها ذلك القول الشهير: «إن الأوطان الكثيرة المصائب والقبائل قلما تستقيم فيها دولة»، «الحضارة تصنعها العقول الواعية في دولة سياجها الحريات والعدالة، فقط لاغير».

وهذا كله.. أعني عشقه للاجتماع علماً ودراسة جعله في مقدمة من أوفدته الدولة لمواصلة دراسته العليا في الولايات المتحدة العام 1957، وهناك في جامعة بوسطن فتح عينيه على مزيد التحصيل والإدراك ليعود أواخر العام 1960 بشهادة الماجستير في علم الاجتماع ودراسة المجتمعات البدائية «الأنثروبولوجيا».

كان الوطن يبتهج بالعيد التاسع لإعلان استقلاله، وكان عبدالمولى دغمان الشاب الذي نشأ في سيدي حسين ببنغازي وتعلم بها ثم ليشاهد العالم في مصر وأميركا يبتهج في اللحظة نفسها ليسهم في دعم هذا الاستقلال وتعليم أبنائه ويصبح محاضراً في كلية الآداب.

وفي هذه المشاهد كلها يلوح هذا الشاب وبعض من جيله أيضاً حريصاً على تحقيق الحلم المنشود بتقدم الوطن وخدمته، لم تكن لديه ولا لدى أبناء جيله أيضاً أية طموحات أو مطامع في الحصول على أية امتيازات أو مناصب أو منافع، ربما البعض كان يحلم بعربة فخمة أو عقار، أو تحقيق حلمه الشخصي الضيق، خاصة بعد ظهور البترول، لكن ذلك لم يكن في وارد عبد المولى دغمان وجيله الكبير.

الغاية كانت التضحية من أجل الآخرين بلا توقف، كان جيلاً طليعياً تقدم الصفوف، وبدأ المشوار الطويل غير هياب ولا وجل. إنها رسالة والتزام بالمسؤولية والانتماء للوطن ولا شيء غيرهما من التي ضاعت في زحام الأعوام وعبر النفوس الشريرة كما تضيع الإبرة في طريق النواجع المتناثرة في الخط البعيد.

كان عبد المولى دغمان الذي تمر ذكراه الحادية والعشرين اليوم نموذجاً للعطاء الحقيقي للوطن، لم ينتمِ إلى أي تيار سياسي أو تنظيم أو حزب خلال أيام الدراسة في الخارج أو عقب عودته إلى ليبيا، كان انتماؤه للوطن، الوطن أكبر من الحزب وأشمل من كل الأيديولوجيات المعلبة والمغلقة، ولهذا تقاطع مع القذافي بمجرد وصوله للسلطة الذي كان يخشى أكثر ما يخشى أمثال هؤلاء الذين ينتمون إلى الوطن ويحركهم الشعور الوطني العميق الذي نفتقده اليوم في كل الساحات وعلى كل المستويات المسؤولة وغير المسؤولة، وببساطة أكثر من غيرها ظل عبد المولى رجلاً أكبر مستوى وأعمق أفقاً من هذه التنظيمات والولاءات البعيدة عن الولاء الوطني.

وظلت الجامعة لديه ذات هوى خاص في قلبه، وكانت عنده بمثابة الوطن الصغير الذي يجمع كل الأطراف ويوحد كل الاتجاهات، وفي الواقع لم يحجر عليه في بيته ثم يسجن باعتباره من مسؤولي العهد السابق، مديراً للجامعة لكنه في منظوري سجن وحورب لأنه يمثل الفكر المستنير والوعي والعدالة والانطلاق.

رجل بهذه القيمة لابد أن تخشاه الأنظمة ويصيبها الهلع من ذكر اسمه، وفي كل الأحوال ظل أكبر من سجانه وأعظم قيمة من جلاديه، ولهذا كان يمقت كل أعداء الإنسان الذين يجنحون لطبائع الاستبداد والظلم، وظل الكواكبي من أمثلة القيم والشرف للأستاذ مع ابن خلدون، وكل العظماء في هذا العالم، وكان البناء في تصوره يعني بناء البشر قبل الحجر، بناء الحجر وعلوه يأتي لاحقاً فلا قيمة له حين يظل مهجوراً دون البشر.

الحجر مكان يجد فيه العقل البشري ملاذاً للحرية والعمل والانطلاق، وفي ذلك تلازم تفكير عبد المولى دغمان تركيزاً منه على بناء البشر وبناء الحجر ليكملا بعضهما ويكونا بذات الأهمية في الترتيب والمكان والزمان ومن هنا بلغ التفكير مداه الرائع بإنجاز الخطوات الأولى لبناء المدينة الجامعية لتضحى مكاناً يشع بنور البشر والحجر وليست مدينة مثل ظلام الكهنوت، مدينة أشباح وهياكل عظمية وعقول متحجرة وجامدة أو ميتة.

إن إعداد الأجيال في الجامعة هو الجسر لصنع المستقبل والجهل والتخلف والحقد والكره والعقد المزمنة، والأخطاء لا تبني الأجيال أو المستقبل، الأجيال تغذيها عوامل الانتماء وقواعد الالتقاء في وطن يضم كل الناس، وهكذا يستقر المجتمع وتستقر الدولة وسط عالم يجرف في طريقه كل الأضحوكات والمساخر.

صوت شجاع نفتقده في هذا الزمن حين يغيب أشخاص مثل عبد المولى دغمان والكثير من أبناء جيله الرواد الذين تنساهم الذاكرة عن عمد واضح لا لبس فيه لنظل نغدو ونصبح ونمسي على أشكال ورموز تدعو للرثاء حقاً في كل حين.

صوت شجاع يدعو إلى الحق والبصيرة جسده عبد المولى دغمان في حضوره أحد اجتماعات رؤساء الجامعات العربية في مصر العام 1968، ظل كل الرؤساء في خطبهم على المنصة يتناولون جامعاتهم وأقطارهم بالتقريظ والثناء، ثم نهض الأستاذ ليختصر الكلام كله في وجوههم بعبارة قصيرة وموجزة ومعبرة: «يكفي أن الجامعة الليبية تؤوي في رحابها العلمية كل مطاريدكم من الأساتذة والباحثين، إنهم عندنا في الجامعة الليبية أيها الأساتذة!».

كان ذلك في زمن رجل مثل عبد المولى دغمان، وذلك يكفي!!