Atwasat

«إحنا صغار ونولوا كبار»

جمعة بوكليب الخميس 04 أغسطس 2022, 01:40 مساء
جمعة بوكليب

قبل حُلول الحِقبة النفطية في ليبيا، وقبل أن تدخل أجهزة التلفزيون بيوتنا، وتنقلب حياتنا رأسا على عقب، أي قبل أن تمتلئ بطوننا شبعا بعد جوع، وقبل أن نلبس الكتان وننسى ما كان، كنا صغارا وفقراء، مثل جديان في مرعى مقفر بلا حدود، لا هم لهم سوى الصياح والنطاح. نجوب، طوال أيام الأسبوع، أزقة وشوارع المدينة، في كل الفصول، حفاة، شبه عُراةٍ: نرتدي قمصان «زافيرا» طويلة حتى الركبة، بألوان مثل مفارش المناضد، وبصدور «مهلوعة» لعدم وجود أزرار، وسراويل زرقاء اللون بالية، ورؤوس عارية.

لكننا في صباحات أيام الجمع، نصاب بحالة استثنائية من الاهتمام، ونتحول بفعلها إلى كائنات صغيرة آدمية وديعة وذكية، تملك إحساسا راقيا، وتتذوق الموسيقى، ولا علاقة لها مطلقا بالجديان، ولا بالقطط الضالة الضامرة، التي كانت تموء جوعا طوال الوقت من حولنا، ولا بالفقر والبؤس الذي كان يعيش معنا، وننسى الصياح والنباح والنطاح، بل ونمقتُ كل من يحاول سرقة تلك اللحظات الأسبوعية منا.والسبب في ذلك برنامج ركن الأطفال بالإذاعة الليبية. كانت تلك الجديان الصغيرة القميئة المتسخة تنتظره بفارغ الصبر.

وحين يحين موعده، في صباحات أيام الجمع، كنا نلتصق بأجهزة المذياع في بيوتنا، منصتين بشغف وغبطة، نتابع، باهتمام إنساني غير عادي، المرحوم عبدالله كريسته وجوقته من الأطفال في البرنامج وهم يغنون لنا، ويقصون علينا الحكايات والنوادر. من تلك الأغاني التي لا تنسى واحده تقول كلماتها: «إحنا صغار ونولوا كبار ونحمي بلدنا من الغدار». كانت أغنية جميلة بحق وحقيق، بلحن مميز لا ينسى، مثل وشم في الذاكرة.

وكنا نحن لا نتوقف عن ترديدها بفرح وببراءة. وحين تعاقبت الأعوام، كبرنا، وتعلمنا القراءة، وبدأنا نتقلب مع أمواج الوقت علوا وهبوطا، لم ننس تلك الأغنية الجميلة، لكن ترديدها لم يعد يثير في نفوسنا الغبطة والفرح كما كان. ضاقت بنا دنيا الله الواسعة في وطننا، وامتلأت ذاكرتنا بأشياء أخرى مؤلمة وباعثة على الهم والضيق والحزن. وكان الوطن مثلنا يكبر، عاما بعد عام، ويتغير بإيقاع سريع جدا، وفي اتجاه على عكس ما يشتهي القلب، ويتقلب مثل مركب بين أمواج بحار قوية، حتى تهدم ما كان بيننا قائما وممتدا من جسور، واتسعت بيننا الهاوية، ولم نعد نتعرف على ملامحه من شدة ما أصابه من تغيرات. وبدأنا نلحظ علاقة من نوع مريب وغريب تتشكل فيما بيننا.

وكنا نعرف أن حُبنا له باق في قلوبنا وإن تغير، وأن شوائب كثيرة اعترته بمرور الوقت، حتى أننا لم نعد نثق بأنه ظل يحبنا كما كان. وصرنا نشاهد على شاشات التلفاز الوطني أجساد أصحابنا تتأرجح في حبال المشانق، جهارا نهارا، في الميادين وفي ساحات الجامعات، وعلى عينك يا تاجر. ولم يكن بالمستطاع أن نفعل شيئا. ولم يكن بمقدورنا أن نفي بوعدنا للوطن بحمايته من الغدار، لأن الغدار الذي جثم على صدورنا كابوسا، كان يملك كتائب أمنية وجيشا عرمرما من المخبرين وسجونا ومثابات ثورية مخصصة لتعذيب من يعارضه.

وكانت خزائن أمواله تسيل لعاب الكثيرين، واستقطبت إليه المغامرين والصعاليك واللصوص، الذين توافدوا عليه من جميع مناطق العالم، من كل حدب وصوب، يحدوهم أمل في الاستحواذ على نصيب منها. وكان سخيا كريما معهم، وبخيلا ولئيما معنا.

بعد أن دار الزمان دورته، وحان الوقت، تلاشى الغدار في لحظات، مثل بخار ماء. لكن الجروح التي تركها في القلوب والذاكرة الجمعية ما زالت تنزف. ولم يُعد أطفالنا يغنون في برامج الإذاعة أو التلفزيون، ومن كبروا منهم قليلا، أصبحوا مجندين في جماعات مسلحة. والكابوس الذي كان لم يتلاشَ، بل تكاثر سريعا، وازدادتْ المسافة بُعدا بيننا وبين حُلمنا في العيش بحرية وبكرامة في وطن حر وكريم. ولم تنتهِ القصة بعد.