Atwasat

أما ترى البحر تعلو فوقه جِيَفٌ!

سالم العوكلي الثلاثاء 02 أغسطس 2022, 12:11 مساء
سالم العوكلي

فيما سبق، شبهتُ الثورات التي تتوخي العنف للقضاء على نظم الاستبداد ــ مثل ثورة فبراير الليبية ـ بالسيل الجارف الذي يحمل في بدايته كل النفايات والرواسب وفي طريق تقدمه، يرميها على جانبيه وينظف نفسه تدريجياً، لكن بعد هذه السنين التي مرت، وزيادة مستوى التلوث وتعكر المياه، أصبح التشبيه الأقرب أن ليبيا «تشبه بحيرة راكدة فُرغت فيها لعقود مياه الصرف الصحي ومختلف النفايات التي ترسبت في قاعها، وتراكم على ضفافها البعوض، وكل ما فعلته هذه الثورة الشعبية الجارفة أن حركت كل ما في القاع من رواسب ونفايات وجعلتها تطفو على السطح وتتصدر المشهد، وأصبح تنظيفها يحتاج إلى تقنيات معقدة ليس أصعبها تقطير كل هذه المياه وتكثيفه من جديد والإلقاء بكل النفايات الصلبة في مكبات القمامة».

هكذا ظلت التيارات، بمختلف أسمائها ومطامعها ومخاوفها، تتصارع على السطح مثلما تصطدم النفايات ببعضها، وبعضها يغوص ثم يعود، والبعض يستقر على الضفاف، والبعض يتعفن وينشر روائحه في كل المحيط، بينما يزدهر البعوض الذي يمتص دماءنا، والذباب المزعج من الداخل والخارج حول هذه الوليمة الباذخة.

أما العديد من الشرائح الاجتماعية التي انتفضت متناغمة مع مظاهر التمرد في المنطقة، وكتبت شعاراتها عن الحرية والدولة المدنية والديمقراطية، وصدحت بها، وجدت نفسها في قبضة من سيطروا على ميراث أربعة عقود من القمع، ولم يكن الميراث سوى المثلث الذي كان شعار أربعة عقود من العبث والفوضى: سلاح تم تكديسه طيلة هذه العقود، فضلاً عما تم جلبه عبر قوى إقليمية تدخلت في المشهد الليبي بعد الثورة، والمال الذي تكدسه ثروة نفطية في البنك المركزي الذي أصبح مركز الصراع، وتحول إلى بيت مال يدعم أمراء الحرب والميليشيات التي تحرسه وتحرس مجلس إدارته وموظفيه، وآخر أضلاع المثلث هو السلطة التي أصبحت شاغرة بعد إسقاط نظام شمولي احتكر فيه كل السلطات شخص واحد، وكانت صناديق الاقتراع التي فُتحت للناخبين في مجتمع لا دولة فيه الطريق الأول نحو تقلد هذه السلطات، والتي سرعان ما استأنفت سردية الفساد التي كرست خلال أربعة عقود، والطريق الثانية كانت السلطات التي انبثقت عن مؤتمرات دولية ترعاها الأمم المتحدة، انخرطت جلها في الفساد والتلاعب بمشاعر وأقدار الليبيين، وطريق أخرى للسلطة عبر سياسة فرض الأمر الواقع، سواء بتشكيل أجسام سياسية لا شرعية لها تتقوى بأذرع مسلحة وجماعات إرهابية، أو عبر السيطرة على الأرض والأحياء من خلال ميليشيات مسلحة يقودها مدنيون بعضهم خرج من السجن في أحكام جنائية حين فُتحت أبواب السجون في خضم هيجان ثورة فبراير.

من هذه البحيرة الراكدة طفحت على السطح أسماء تقود المرحلة ما أنزل الله بها من سلطان، لا حضور لها في التاريخ ولا الجغرافيا ولا حتى في مجتمعاتها الصغيرة، ولا مؤهلات ولا أي خلفية معرفية، ومهارتها الوحيدة كانت خبرة الإجرام واستغلال الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السابق الفوضوي، والسيطرة على قدر كبير من تركة السلاح، وتجنيد شبان ليبيين يائسين، لتفرض نفسها في المشهد عبر إرهاب وتخويف الناس والسياسيين وممثلي البعثات الأممية.

وطيلة سني هذه الرواسب التي بدأت تطفح على السطح، كانت ليبيا تعاني انقسامات واستقطابات جهوية ومصلحية وعقائدية، تغذيها وسائل إعلام مهرجة ما انفكت تحرض على الكراهية، وباستخدام أساليب مقذعة وسفيهة وبذيئة تجاه بعض مكونات المجتمع من المفترض أن تضع المتفوهين بها خلف القضبان، وتقفل هذه المنابر لو كان ثمة قانون في هذه الأرض التي تتحدث عن الدولة المدنية بحماس والانتخابات الرئاسية والتشريعية دون أن يكون قانون واحد نافذ فيها.
فوق هذه البحيرة تلتقي الرواسب الطافحة من القاع في كل مكان وعاصمة للاتفاق على قاعدة دستورية للانتخابات، لكنها لا ولن تتفق أبداً، ومن المنطقي أن لا تتفق على إجراء دستوري ديمقراطي من شأنه أن يباشر في تنظيف البحيرة من الرواسب السامة ويحرم البعوض والذباب من وليمته الفاخرة.

تأتي سلطات عليا عبر مسرحية عابثة أخرِجت في جنيف بعد أن دُفعت الرشى من المال الليبي المسروق، وبدل أن تتواجد خلف القضبان نراها تستقل الطائرات الخاصة وتمشي على الفرش الأحمر، ورغم ذلك يسلم الجميع بإعادة تدوير النفايات وبسلطات الفساد طالما انبثق ضوء شاحب في هذا النفق المعتم، وطالما ثمة نفاية فوق سطح البحيرة قابلة للتدوير، وتكلف هذه السلطات بمهام محددة (جداً) خلال زمن محدد (جداً)، وتتجاوز زمنها المحدد جداً دون أن تنجز أي مهمة من مهامها المحددة جداً، وتظل مستشارة الأمم المتحدة اليائسة جداً وفريقها يتعاملون مع هذه السلطة رغم فقدانها شرعيتها ومشروعيتها، وفي خضم هذا التلاعب يذهب التفكير إلى حل ليبي – ليبي، عبر المرجعية الوحيدة التي مازالت لها صلة بالإعلان الدستوري متمثلة في السلطة الوحيدة المنتخبة في ليبيا، إلى تشكيل حكومة وطنية جديدة، منبثقة من إرادة ليبية، قد تفتح كوة في هذا النفق، لكن القوى التي تعترف فقط بالحلول المستوردة التي تأتي من خلف الحدود لا يعنيها أي حل داخلي، وتتعامل مع السلطات الليبية المنتخبة وكأنها جمعيات أهلية خيرية غير ملزمة لها.

مجلس النواب، بكل عيبوبه وانقساماته، آخر سلطة منتخبة دون أن أبرئه من كون معظم من وصل إليه كانوا في سياق تحريك البركة الراكدة وصعود الرواسب إلى السطح، لكن في النهاية كان هذا خيار الليبيين الذين تحمسوا دائماً ومازالوا يتحمسون لأي استحقاق ديمقراطي يعيدهم للمسار الذي ثاروا من أجله، وهتفوا به، وخطوا شعاراته على جدرانهم (ليبيا دولة مدنية ديمقراطية واحدة).

كثيرًا ما تمر المجالس النيابية في دول أخرى بأزمات ومشاكل تعطلها عن العمل شهوراً وأحيانا ًسنوات، لكنها تظل مركز العَودِ والمرجعية إذا لم تساعد تداعيات الأزمة على إجراء انتخابات مبكرة، وتجاهل هذا الجسم الذي تنبثق منه القوانين والتشريعات والأجسام الأخرى والمناصب السيادية، يجعلنا ندور في حلقة من العبث المستمر، ويعيدنا إلى ما قبل المربع الأول، فعبور الوادي على جسر متهالك أفضل من السقوط في فراغ الهاوية.

ولأن هذا الجسم شكل عثرة امام سياسات فرض الواقع الذي تديره قوى مسلحة خارجة عن القانون، دُفعت الأموال الفاسدة من جديد لبعض البلطجية من أجل حرق مقراته وسرقة محتوياته، وكان عقاب السلطة التي جاءت عبر الرشى والمال الفاسد لهذا الجسم الوحيد الذي يعكر صفو فسادها، واستمرت تدفع الرشى لغوغاء المجتمع الذين تحولت ليبيا لديهم إلى مجرد سوق للمزاد أو ما يسمى في كثير من المدن (سوق السراقة) أو سوق الخنابة، ولأول مرة تعمل حكومة منتهية ولايتها على سحب الثقة من البرلمان وإسقاطه في تاريخ الدول القديم والحديث.

ستظل الرواسب السامة تطفح على السطح طالما الشعب الليبي المتضرر من التلوث والروائح الكريهة ظل صامتاً وجالساً خلف الشاشات يراقب هذه الكوميديا السوداء، ويتابع أحداث العالم القوي التي قد تفتح له كوة أمل أو زحزحة ما لما يحدث في مجتمعه الخالي حتى الآن من الدولة ومن القانون. ولا خيار أمام الليبيين المتمسكين بالمسار المدني للدولة الجديدة والمتمثلين في من سجلوا في قوائم الانتخابات الأخيرة المجهضة، سوى الاستمرار في الحراك الشعبي السلمي والعصيان المدني إذا استلزم الأمر، للخروج من الأزمة، وإقصاء الطبقة السياسية التي تلاعبت بنا منذ عقد بعد إسقاط النظام السابق.

قال الإمام الشافعي: أما ترى البحر تعلو فوقه جِيَفٌ.. وتستقرُّ بأقصى قعره الدّررُ!