Atwasat

شعب يغني للوطن

محمد عقيلة العمامي الإثنين 01 أغسطس 2022, 10:45 صباحا
محمد عقيلة العمامي

غالبًا ما تبهر إيطاليا الذي يزورها، ثم تأخذه تمامًا بعدما يكتشف طبيعة أماكنها، وبالطبع عادات أهلها وثقافتهم. كنت أظن أن الأمر بالنسبة لنا نحن الليبيين يعود لعلاقتنا المتنوعة بها، من دولة استعمرتنا لحوالي نصف قرن، فتأثرنا بها إلى دولة صديقة، ارتبطنا بثقافتها وتوثقت بسبب قربها وعلاقتنا التجارية بناسها. وظننت أن الجيل الذي يسبقني كان مأخوذًا أكثر منا بسبب إجادة الكثيرين منهم اللغة الإيطالية.

ولكن ما إن سافرت إليها أول مرة في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حتى أُخذت بها، وسريعًا ما تعلمت لغتها، وتمكنت من التحدث بها، حاولت أن أتعلم قواعدها وأقرأ بها ولكنني لم أفلح! أجدت الحديث بها وما زلت حتى الآن أردد بعضًا من أغانيها، وطرائف أهلها.

ولقد سألت نفسي كثيرًا، لِمَ هم، وكذلك اليونانيون أقرب لي، شخصيًا من بقية مواطني الدول الأوربية. اليونانيون ودودون سريعًا ما تصبح صديقهم، ناهيك على أنهم شعب يعشق موسيقاهم (البازوكي) ويحيونها بتحطيم الأطباق تحت أقدام رقصاتهم الشعبية، ولهم أغانٍ قريبة جدًا من أغاني العلم الليبية وفوق ذلك يحبون المرح والرقص والأكل والراحة. اليونانيون قبيل انضمامهم إلى الدول الأوربية لهم 177 يومًا من السنة عطلات رسمية يعني حوالي نصف العام!

أما الإيطاليون فهم يعشقون الحياة ومباهجها. (أمينتوري فانفاني) الذي شغل منصب رئيس وزراء إيطاليا لخمس مرات، والذي أطلقوا عليه لقب (الجواد الأصيل) قال عن شعبه «أنهم تعلموا وتوارثوا من أمهاتهم الغناء أمام الشدائد. وأنهم يعشقون الحياة ويثقون في قدراتهم على البقاء ويحققون ذلك من خلال حريتهم الشخصية». ولعل ذلك ما جعلهم ينشدون متع الحياة، وتقول الإحصاءات إن نصفهم يمتلكون منازل خاصة لإجازاتهم، وينفقون كثيرًا على مباهج الحياة.

غير أنه، في تقديري، أن أهم ما فسر به صمود الإيطاليين، واستمتاعهم بحياتهم رغم الصعاب الاقتصادية التي تواجههم باستمرار هو تفاؤلهم إذ يقول: «إن الإيطالي بطبعه يثق بقدراته على البقاء والتغلب على الصعاب الحياتية اليومية، قد يستغنى عن أي شيء سوى حريته الشخصية في تنفيذ العمل!».

إن إيطاليا ليست المدن الكبيرة، والازدحام وكثرة مستندات تسيير العمل، بل هي الضواحي، والقرى التي تنتج آلاف الأحذية المشهورة من دون تراخيص تذكر، فالكثير منها تنتج في غرف صغيرة بأيدي ماهرة. والحقيقة أنني صادفت هذا الواقع في مطلع سبعينيات القرن الماضي، فلقد كنت صحبة صديق يبحث عن (ماركة) أحذية مشهورة وتوصل إليها، وكانت أسعارها مرتفعة يصعب معها تسويقها في ليبيا، وغادرنا مكتب تلك الشركة، ولم نبتعد كثيرًا حتى لحق بنا شاب كان رفقة من كنا نتحدث معهم. وعرض علينا أن يوفر لرفيقي ما يريد بنصف السعر ولكن من دون (الماركة) التي يريد، واقترح عليه أن يغير أحرف من اسم الماركة التي يريدها، وتم له بالفعل ذلك، ولا أبالغ إن قلت أن مصنع هذه الأحذية الفخمة لم يتجاوز غرفة جلوس عادية في أي منزل من منازلنا.

مرونة العائلة الإيطالية هي رأس المال الذي تأسس عليه نجاح العمل العائلي، فالعديد من المشاريع العالمية الإيطالية الكبيرة أساسها مطبخ، أوغرفة، في منزل العائلة تقول المراجع أن المعجنات، أو بمعنى أدق مكرونة (أل بويتوني) في مدينة بيروجيا، التي نالت شهرة عالمية بدأت من مطبخ عائلة صغيرة، ومصنوعات (فندي FENDI ) الجلدية في روما ابتدأت من غرفة في منزل العائلة، وخل البلسمك الشهير الذي يحتاج إلى 12 سنة لإنتاجه، والذي تشتهر به مدينة (مودينا) الإيطالية ابتدأ بمجهود قسيس في كاتدرائية، ثم تخصصت فيه بقية كنائس المدينة، لدرجة أن لا تجد زجاجة هذا الخل من دون اسم (MODENA)، كذلك جبن (البارمجان) ابتدأ في كنيسة بمدينة (روجي إيمليا) ومصنع الجينز الإيطالي الشهير كريست (Crest) ومنسوجات (بينتون) العالمية بدأت من غرفة عائلية وانتشرت في 22 دولة، وفي مدينة نيويورك، مثلما يقول المصدر يوجد في شارع واحد سبعة محلات لمنتجات (Benetton بينتون). هناك الكثير من مثل هذه المشاريع.

يندر جدًا أن تجد إيطاليًا لا يمارس أكثر من عمل، فلا تستغرب إن كنت قد منحت إكرامية لنادل المقهى المجاور للفندق الذي أقمت فيه، ووجدته، في صباح اليوم التالي صرافا في بنك استبدلت فيه دولاراتك بالليرة الإيطالية. إنها إيطاليا التي يندر ألاّ تلتقي بأحد أبنائها، وهو يمرح ليلة عطلته الأسبوعية وهو يتغنى بأغنيتهم الشهير: (Lasciatemi cantare) دعني أغنى، دعني أغني، فأنا إيطالي حقيقي. نعم إنهم يغنون ويعملون، ويبدو أننا تعلمنا منهم الغناء فقط!