Atwasat

«الرضا»

صالح الحاراتي الخميس 28 يوليو 2022, 03:53 مساء
صالح الحاراتي

طَلَبَ رِضاهُ: أي مُوافَقَتَهُ واسْتِحْسانَهُ وقَبِل الأمرعَنْ رِضىً: أي بِطيبِ خاطِرٍ، ونظَر بعين الرِّضا أي قَبِل الشيءَ عن طيب نَفْس.. أما في (الفلسفة والتصوُّف) فالرِضا أحد المقامات أو الأحوال عند الصوفيَّة وهو نهاية التوكُّل وقبول كلّ شيء، وفي (علم النفس) حالة من التَّوافق بين الكائن والبيئة المحيطة.

أما المقصود بالرضا هنا فهو يعني نقيض الإكراه، يقول الفقيه الدستورى «السنهوري» في تعريفه للإكراه (بأنه الرهبة التي تُفسد الرِضا).. مثل تهديد المكره بخطر محدق بنفسه أو بماله أو باستعمال وسائل ضغط أخرى لا قبل له باحتمالها.. فالإكراه ضغط تتأثر به إرادة الشخص فيندفع إلى الإتيان بما اُكره عليه بغير رِضا.
والذي يُفسد الرِضا ليست الوسائل المادية التي تستعمل في الإكراه، بل هي «الرهبة» التي تقع في نفس الإنسان.. كما أن الذي يُفسد الرِضا في التدليس مثلا، ليست هي الطرق الاحتيالية، بل ما تحدثه هذه الطرق في نفس الإنسان من التضليل والوهم.

هناك نوع من الإكراه تنعدم فيه الإرادة ويسمى الإكراه المادي، وآخر يضعفها فقط، ويسمى الإكراه المعنوي.. ويكون الإكراه مادياً، عندما يجبر الشخص على إبرام تصرف أو القيام بفعل ما بقوة مادية لا يستطيع مقاومتها، ولا يملك سبيلاً لدفعها، كأن يشهر في وجهه السلاح فتشل إرادته ويفقد حرية الاختيار، وعلى هذا فإن الإكراه المادي ينتزع الرِضا عنوة لا رهبة.. أما الإكراه المعنوي فهو تهديد يوجه من شخص إلى آخر بوسيلة ما، فيولد فيه حالة نفسية من الخوف والفزع تجعله يقدم على الإقرار بقبول ما لا يرضاه وما لم يكن ليقبله اختياراً.
وهنا لا بُد من التأكيد على أن أي تصرف يترتب على الإكراه بنوعيه، المادي والمعنوي، لا يعتد به ويعتبر باطلا، لأن إرادة الإنسان لم تكن حرة.

وجدير بنا في هذا السياق، الإشارة إلى الكم الهائل من الإكراهات المعنوية والمادية التي مورست على إنساننا طيلة قرون ولم يعش حالة الرِضا إلا نادرا، مما أدى إلى واقع صار فيه إنساننا يتصف بالجبن والخضوع، ونحن رغم إقرارنا بمعاناته، لا نريد أن نقدم له صك براءة لما هو عليه ولكننا ندعو لمراجعة محايدة للتاريخ لكي يتكشف لنا حجم القهر الذي تعرض له وتركه منهكاً مقهوراً فاقداً لإرادته بسبب ما يعانيه من الإكراه والظلم، فالأمر يحتاج منا إلى الكثير من الرحمة والتعاطف والمساندة، وليس تقريعه ولومه على ما هو عليه من سلبية وسكون، خاصة والإكراه بنوعيه لا زال يمارس علينا حتى الآن، وكلما تحقق تغيير ما في أوضاعنا السياسية واعتقدنا أننا سنغادر محطة الإكراه نجد أنفسنا مهددين وندور في نفس الدائرة.

الرضا أمر ضروري لللتوازن النفسي .. فما هو معلوم من الناحية السيكولوجية أن «كل ممنوع مرغوب».. وإذا كنت تريد أن يكره طفلك شيئا ما فأجبره عليه.. وهذا أسوأ مبدأ من مبادئ التربية، وبالتالي إذا كنت تريد أن يكره الشعب شيئا ما فأجبره عليه إجبارا، ومن هنا تفشل كل الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، لأن الشعوب ليست سوى مجموع الأفراد فإذا تحقَّق الاعتراف باحترام الإنسان الفرد لأجل «كسب رضاه»، فإن ذلك يعني الالتزام بحقه في الاختيار الحر والتفكير المستقل وحقه في التعبير عن نفسه وعن أفكاره وآرائه ومواقفه دون خوف ولا تقييد أو إكراه.

لن أتوقف عن ترديد قناعتي بأنه (لا إكراه فى الدين ولا فيما سواه).. ليقيني بأن الرِضا هو الأساس المتين للقبول بأي فعل أو رأي أو اعتقاد، ومن الأقوال التي لها مكانة محترمة هي أن (الحرية أم الفضائل).
هذه السطور محاولة متواضعة لإعادة التذكير والتعبير عن حقيقة مفادها أن تجارب الشعوب سوف تنتهي بـها إلى أنه لا بديل عن الحرية المتجسدة سياسياً بنظام رشيد يعترف للإنسان بفرديته ويوفر له الحرية والكرامة والالتزام بالقانون وتكافؤ الفرص.. وبالنتيجة فإن هذا يعني توفُّر الحريات للجميع.. حتى ينال ذلك النظام الرضا والقبول، مما يؤدي إلى فتح كل الخيارات أمام الناس وتوفير تكافؤ الفرص فيما بينهم؛ فالإنسان هو الأساس، والحرية هي الجوهر... الإنسان والحرية مفهومان متلازمان وأساسيان للتنمية والتقدم البشري. فالحرية مزروعة خلقيا في الذات الإنسانية، ولأجل ذلك فالتعبير عنها وتجسيدها واقعاً أمر لا غنى عنه.