Atwasat

صومعة قمح بنغازي!

أحمد الفيتوري الأربعاء 27 يوليو 2022, 12:23 مساء
أحمد الفيتوري

لا تصدق أحد حتى نفسك لا تصدقها، صحيح القلب وما حب، وصحيح أن ثمة مدينة النور، لكن بنغازي مدينة سوق الظلام. كان صديقي في الزنزانة، رمضان المقصبي، يحلم أن يصنع مصباح الظلام، فقد كنا في زنزانة ممنوع إطفاء نورها. فإذا كنت لا تصدق: أن ثمة من يحلم بالظلام، فلأنك لم تعش في زنزانة لا يُطفأ نورها، وأنت تريد أن تنام.

لهذا فإن بنغازي تمتاز بأنها سوق للظلام، وأن بها شارع بوغولة، كثيراً ما تحدث صادق النيهوم الكاتب البارع، عن أن شوارع بنغازي أفضل من أي سينما في العالم، ففيها تلتقي التماسيح تعارك العفاريت، وذلك يتوفر بالمجان مع غياب الشمس، فبنغازي دار عرض للأفلام الحية والواقعية، وأنها في ذلك أقدم من هوليوود...

أحث الخطى، في مدينة بنغازي، في شارع الاستقلال الطويل، ومن كتبت عليه خطى مشاها حثيثاً مخافة زحمة السيارات، فالظلام الذي يحوطه ساعة يصل نادي النصر هذا النادي العريق، الذي مكانه أكثر عراقة في تاريخ الكرة الليبية، أي ملعب 24 ديسمبر سابقاً: أمسك بالترانستور على أذني، بيليه يسجل أهدافه المتتالية، وإن كان الفريق الإنجليزي يحث الخطى، للفوز بكأس العالم في هذه الدورة.

أوه مصطفى المكي، هذا القصير القامة الراسخ القدم، ضيع الهدف، هكذا يخسر الأهلي المباراة أمام النصر/الهلال، رن هذا التعليق في أذني المتحررة من الراديو، وقد غصت التريبونة بمشجعي الأهلي، فيما ديمس الصغير، من يشبه بيليه، يقطع ملعب 24 ديسمبر، كفهد ارتوى من حليب نيدو، وهو يقدم له الدعايات على شاشات السينما تلك الأيام، ديمس الفهد الأسود الصغير، أوقفه وسد تقدمه شبل الأهلي أحمد بن صويد، شريكه في الدعاية للحليب المجفف الجديد نيدو.

الملعب صغير لكنه يضم كل سكان المدينة، عشاق الكرة المنقسمين بين أهلاوية وهلالية أو نصراوية (فحامة)، بين هذين يندس خليفة الغرياني، بطل المصارعة الحرة المهزوم أبداً، خالي صانع السندوتشات المميزة، يبيع القازوزة ماركة الأهلي والكازوزة ماركة الهلال. أما نادي النصر، نادي الفحامة كما يطلق عليه الشارع الرياضي، دون أن أعرف سبب التسمية، فيقفل الشارع، حيث ينوي النصر ملاحقة التحدي والهلال في مسابقة بناء أسواق وتأجير المحلات، أما مسابقة الكرة فمن لزوم ما لا يلزم.

لهذا وغيره أسرع الخطى، كي أندلف تحت جسر البركة، ما أتلحفه خاصة أنه كان ثمة مطر سماوي أو هطول مباغت للسيارات. بعيد ذلك ينبثق من تحت الجسر، القصر الوارف نخلا شجرا خضرة، منذ عرفت شوارع مدينتي، ولم أعرف حتى الساعة صاحب هذا القصر الجميل رغم تحتيته. هل يحق القول قصر وهو يقع تحت النظر.

عند السيلس: خزانة القمح/تاريخ المدينة، التي بناها الطليان كما يخيل لي من طراز البناء، على يميني، أما المدينة الرياضية فعلى شمالي، حيث تسطع أقمار الملعب، وأصداء المعلق محمد بالرأس علي تغمرني، وكذا ضحكته وجذله، بأن ما يعرف حول اللعبة واللاعبين، أكثر مما يعرف أي مهتم غيره، وإن كانت حدوده المعرفة، فهذا الجسد القصير البدين يكشف عن مفارقة: أن أكثر المهتمين بالرياضة في المدينة الأقل ممارسة لها.

عند السيلس عند المدينة الرياضية، يشملني السمافروا كما يشمل موج السيارات الهادر المتدفق من جهة الميناء، أتوقف عن السير منتظراً طلوع الضوء الأحمر، ليوقف سيلان السيارات الكورية ما يسبغ مراكيب هذا الزمان، وأحشر في مسرب السيارات المتلاطم، حيث لا ممشى لمرتجل بعد أن زحفت أشجار مهملة.

بنغازي مدينة مشوبة بمشاعر رومانتيكية، لهذا تجنح للتوحد، مصابة بفيروس الوحيدة في كل شيء وأن لا تشبه غيرها: لا تحب المشائين، تكره كل راجل، فيها تُغتال الأرصفة. ثم أنطلق هائماً في ملكوت الرب والعباد، سائحاً بشعاب الشارع الطويل، مشمولاً في شماله، بعد كنس محطة الكهرباء، وما تبقى من محطة سكك حديدية، في مدينة تحب أن تفوت قديمها وتتوه، مشمولاً بحديقة مهجورة، وفي طول ليلة دون عشاء.

كما لو أني أنهكت من الكتابة وما يشغلني، تثقل الركب ويخض حليبها، قبيل فندق تيبستي برج بنغازي المنطفئ، ما يعرف عند أهلها بـ(الردياتوري)، لقربه من شبهة أنه مبرد وخزان ماء السيارة ولسواده العنتري، فندق خمس نجوم زاهي بنجوميته، متكبراً بذلك عن مدينته، كأنه غريب غص في مدينة السباخ. بخاصة وأن فندق أطلس وسينمائه الحرية، قد أكلهما تماسيح السوق، محولينهما إلى غير مهمتهما الأصلية، وفي حاشيتهما التي تطل على شارع جمال عبدالناصر، تطاول مبنى اسمنتي موحش لم يكتمل منذ دهر، قاصفاً الرصيف قاذفاً المشاة في هول البغال الحديدية.

كنت مغموراً بالضوء، وزهو المدينة به، عن غيرها من مسكون بالوحشة والظلمة وقلة البشر والحيلة، سيغمرك الظلام حيث لا تحسب، بين مدرسة شهداء يناير، أشهر المدارس في البلاد، ما بنتها اليونسكو لما ما كان ثمة نفط، وعمدها طلابها بدم حيث ما لزم، هذه المدرسة قبالها مبنى إيطالي قديم في المباني، كما قدمه في الوظيفة، فما عهدته إلا كبناء للبوليس وإدارته، من حيث يمكن لك أن تحصل على هوية تغنم بطاقة، يسميها أهلنا بطاقة شخصية، إن أردت أن تكون لك شخصية، وحتى إن لم ترد، فالقوانين العصرية توجب ذلك وتفرضه في أي أين.

فاحذروا بنغازي مدينة السباخ، ما لا نيل لها، تغمرها التماسيح، تدعي ملكية روحها (السيدس/خزانة القمح) وكل قديم، وتنهش جسدها. قبل هدم سوق الظلام فيها ونهش جسدها، اليوم ستنهش روحها بادعاء تحديثها.