Atwasat

شجون قانونية من قلب الألم

سالم العوكلي الثلاثاء 19 يوليو 2022, 11:52 صباحا
سالم العوكلي

من بنغازي، المدينة التي عانت ويلات نظام سابق، وويلات ما بعد الثورة التي أطاحت به، في كتابها المهم (شجون قانونية)* تخرج علينا أستاذة القانون د. جازية شعيتير من قلب الألم دون أن تفقد الأمل، اختصاصية القانون والعاشقة للأدب والفنون، وهي تدرك أن أشهر القوانين المنحازة للإنسانية وراءها وقدات شعرية انبثقت من قلب المعاناة، خصوصاً تلك المتعلقة بمآزق الإنسان البريء في خضم صراع القوى المجنونة، ما يجعلها تغوص في إحدى المقالات في كتاب «سجنيات» للأديب عمر الككلي؛ الذي تعتبره «درة ذلك العقد وواسطته الفريدة، لأنها نصوص سردية، توثق عذاب الضحية في مؤسسة إصلاحية، لأكثر من تسع سنوات. ولأن «سجنيات» نصوص أدبية تحوي حكماً حقوقياً يدين النظام الجنائي بأسره، سأختار بعض حيثياته لبيان الرؤية الحقوقية لكثير من النصوص والممارسات القانونية.» ومن قراءتها للقاص أحمد يوسف عقيلة، تكتشف أن «في دستور ذلك القاص، يصبح الحق في الغناء وفي الحب وفي المرح وفي الاختلاف، من الحقوق الطبيعية للإنسان. دستر القاص حقوق الثائرين والمعلمين والعاطلين والقلقين والخائفين والعطشى والجائعين عابري السبيل في المدن الكبيرة، والأسرى والمساجين والجلادين. ولم ينس أن يدستر حقوق ذوي الإعاقة، وذوي الاحتياجات الخاصة ...». بينما مقالتها «بين القانون والفن» تشخص الجدل التاريخي بيه هذين الحقلين، فبقدر ما يقترح الفن مشاريع قوانين، يسعى المُشرِّع لسن قوانين من شأنها مراقبة الفن وتحجيمه، كما تقترب في مقالة (حصاد قانوني) من إسهامات الفلسفة في هذا الحقل والتي يكمن دورها في تقصي البعد المنطقي أو الأخلاقي للقوانين، والتساؤل حول محنة «المآزق الإنسانية التي يجد الإنسان نفسه فيها» وفق تواشجها مع كتابات زميلها في فريق العمل البحثي، البروفيسور في الفلسفة، نجيب الحصادي.

تتسم روح المقالة في هذا الكتاب بلغة سلسة وميسرة رغبةً في إدراج القانون بسلاسة في ثقافة المجتمع ليغدو وعياً شائعاً، والوعي بالقانون هو ما يعزز دوره الحقوقي ويجعله فاعلا فوق الأرض حيث تتضارب أهواء البشر ومصالحهم، وهي تدرك أن القوانين المتشبثة بالقيم الإنسانية العليا ظهرت جيناتها الأولى في قرائح الشعر والنثر والفن عموماً قبل أن يسنها الترقي البشري ويُعين لها مؤسسات التطبيق، وكنصوص الشعر نبعت أهم النصوص القانونية من الألم والتوق الإنساني للسلام والحرية والعدالة، ما يثري هذه المقاربات المهمة بتواشج أصيل بين مفاهيم مثل: القانون والحقوق والأخلاق والهوية وسؤال الوجود.

الكاتبة مطلعة على الأدب، وتعيش في محيط حواري من الأدباء واختصاصي الفلسفة والعلوم السياسية والاجتماعية، ما يجعل اختصاصها يحوم في هذا المساحة من التفكرات الذهنية تجاه مبادئ الحوكمة العدلية، اختصاصها الأصيل، وهي في هذه المقالات ذات الروح البحثية التي تتوخي الدقة والحياد، تسعى لنقل هذا الحقل الخاضع للتوظيف السلبي أو التلاعب به إلى مكامن حصانته النصية والأخلاقية فلابد أن يكون القانون محترماً كي يُحترم، خصوصاً في الجزء الأول المتعلق بالمرأة كشاغل أساسي أو «نون النسوة» الضمير الأنثوي المهمش في القوانين الأبوية الصنع مثلما هو مهمش في قوعدة اللغة الذكورية، والذي يحتاج إلى ضمير حقوقي وقانوني كي ينخرط بحرية مع واو الجماعة المتساوية الحقوق. وتركيزها في أكثر من مكان على مصير أبناء الليبية (او أبناء الرحم الليبي) من أجنبي، يعكس تجرد القانون من جوهره الإنساني، حين يجد إنسانُ ـ ولد فوق هذه الأرض من رحم ليبي ــ نفسه دون هوية وجنسية وحقوق مدنية، ما يطرح سؤالاً حارقاً حيالة مسألة الحق الوجودي نفسه، وهذا المثال ينسحب على كثير من النقد الذي توجهت به الكاتبة حيال هذا الفصام التاريخي الذي تعيشه مجتمعاتنا، بين مواد دستورية مُلزِمة تشدد على حق المواطنة ومساواة الجميع أمام القانون، وبين تقاليد وإجراءات ومحاكم تفرغ القوانين من محتواها حين تصل إلى محكها الحقوقي، وتتحول إلى نثر نسوي يُقرأ بغبطة دون أن يكون له أثر في الواقع. وبسبب هذا الفصام ترى أن ربط القوانين المحلية بالقوانين والمواثيق الدولية ضروري من أجل تعزيز فعاليتها، لأنها منجز إنساني أسهمت فيه كل الحضارات على الأرض في أطوار متلاحقة من الترقي الإنساني، ومواثيق ملزمة وقعت عليها الدول التي مازالت تعيش صراعاً داخلياً بين سن القوانين المعززة لمكانة المرأة وحقوقها وبين التابوهات الملتفة حول هذه الحقوق، وهي إذ تعتبر التابو السياسي أقل وطأة من التابوهين، الديني والاجتماعي، في ترويض النزعة التحررية والمساواتية لهذه المواثيق، وإذ تشير إلى نضال المرأة في مراحل سابقة جعلها تنال بعض الحقوق المهمة كخطوة متقدمة، فإنها تفرق بين التابوهات السابق ذكرها في مستويات ضغطها على هذا المنجز، باعتبار السياسي سلطة محددة المعالم وممأسسة، بينما السلطتان، الدينية والاجتماعية، مائعتان وغير محددتي المعالم، تنصبان محاكمها في الهواء الطلق دون فرش أو شهود أو فرصة للمرافعة، ولتعود حقوق المرأة إلى المربع الأول، وسينطبق هذا على حقوق أبناء الليبيات من أجانب (الأطفال) وعلى المكونات الثقافية المختلفة في المجتمع الليبي، لأن طبيعة السلطة الأبوية أن تقمع الأقليات والكينونات الهشة.

ومن هذا المنطلق، تشتغل الكاتبة على مبدئين مهمين: نقل القوانين إلى خانة الحقوق من جهة، وشحنها بالحس الأخلاقي من جهة أخرى، حيث الأخلاق المعنية هنا هي القيم الإنسانية التي وصل إليها المنجز الحضاري وليس بمفهومها الضيق الذي تُنشأ من أجله شرطة آداب أو نهي عن المنكر، فتتناول المبادئ الدستورية الملزمة التي من المفترض أن تُسن في ضوئها القوانين، وتكشف التعارض بين مواد دستورية صريحة والقوانين الحري بها تنظيم القاعدة الدستورية دون أن تخل بجوهرها، وباعتبار ليبيا مُوقِّعةً على العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية الضامنة لهذه الحقوق، لكن الكاتبة تُنبه إلى أن القوانين المحلية تبدو كتحايل على هذه الالتزامات الدستورية والدولية، فتخضع محلياً لضغوط تتعلق بالشريعة أو العرف أو المزاج السياسي الحاكم والحريص على دغدغة وجدان هذه السلطات. وهي بالتالي تذهب في نقدها الحاد لتفريغ القوانين من محتواها الحقوقي إلى ما يتعارف على تسميته بالواقعية القانونية، وهي نظرية في فلسفة القانون أو فقه القانون تنزع إلى أن فهم طبيعة القانون يكون عبر تقصي ما تقوم به المحاكم والمواطنون فعلاً وليس فهمه عبر تحليل القواعد والمفاهيم القانونية، باعتبار هذه القواعد تنبؤات مقنَّعة لِما سوف تقوم به المحاكم، والأحكام الفعلية التي تصدرها المحاكم هي التي تشكل القانون فعلاً وليس نصوصه، وتستعين بسرد عديد الوقائع التي تؤكد على هذه النظرية.

بقدر ما تدعو الكاتبة لضرورة تعميم ثفافة القانون اجتماعيا، بقدر ما تتوخي فعالية إدارة هذه القوانين في المجال العام كي تصبح نافذة وملزمة، فلا يكفي أن تُسن القوانين ونتباهى بها كترف تشريعي أو ديكور خارجي، لأن القانون لن يكون موجوداً إلا بإدارة تجعله يتحقق فوق الأرض عبر مؤسسات إنفاذه. كما أن سردها المتفحص للمواد الدستورية والقوانين التي تتعدل أو تنقح وفق أهواء كل سلطة، يعكس مدى الاضطراب التشريعي التي وقعت فيه البلد بين من يريدون طي الصفحة والمضي قدما، وبين من يريدون طي صفحة المستقبل والمكوث في دائرة تصفية الحساب المفرغة مع الماضي، ومثلما أربكت هذه الأهواء المتضاربة أحلام ضمير نون النسوة ببيئة تشريعية تحترمها، أخلت بالجوهر الأخلاقي والحقوقي لمفهوم العدالة الانتقالية كإجراء تصالحي يعقب سقوط نظم الاستبداد، أو يتزامن مع حمى الحماس الثوري الذي يرتكب مزيد الجرائم في ذروة تغنيه بالعدالة.

عن هوية أبناء الليبيات من أجانب، كتَبَتْ بحرقة، وعن النساء المعنفات، والعدالة الانتقالية، والسجون، والتنمية المستدامة، والهوية أو الهويات الليبية، والفساد الإداري، وإعادة الإعمار، وبيع النجوم، وتوطين فلسفة القانون، وتثقيف المناهج الدراسية بالحقوق، ونشر «القيم المحابية للحقوق والكرامة والتعايش السلمي وللتسامح والمحبة والايثار والعفو والصلح»، والعقد الاجتماعي أو المواثيق التي تنمي الهوية وتعزز مفهوم الأمة المتماسكة بتنوعها، وفي كل ذلك، كانت تؤكد على مسار رابع وهو المسار الاجتماعي الذي يؤسس الأرضية لانسياب المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تركز عليها المبادرات المتعلقة بمستقبل البلد. وهو مسار لن يكون فاعلاً إلا حين تشيع فيه ثقافة القانون والحقوق، ويُنمى بمراجعة ارتباكات المدونة الدستورية والقانونية الليبية، وتغييرها أو تعديلها بما يناسب العصر والمواثيق الدولية، وسد الفجوات التي تتسرب منها خطابات التشويش على حقوق الإنسان عموما، وحقوق المرأة والطفل خصوصا، والحقوق العاجلة في ظل ما يتعرض له المجتمع من فوضى ونزاعات وعنف. فمعظم العناوين تشير إلى أن الكاتبة تطلق صرختها، من ساحة معركة، ومن قلب الألم . وأهمية الألم أنه ينبهنا إلى مواطن الخلل أو المرض، وما تعرضت له هذه الأرض من ألم كانت الكاتبة جزءاً منه هو ما يجعلها في هذا الكتاب المهم تضع أصبعها على مكامنه في الفضاء التشريعي الليبي الذي سَرَدْت، في سياق التركيز على جوانيه الملحة في هذا الوقت، مآزقَه وتواريخَ تقدمه وتراجعه منذ تأسيس الكيان الليبي وحتى لحظة الكتابة.

* د. جازية شعيتير ــ كتاب (شجون قانونية: قراءات نقدية في التشريعات الليبية) ـ دار الفضيل للنشر والتوزيع ـ بنغازي.