Atwasat

(قهوة مزبوطة!)

صالح الحاراتي الخميس 07 يوليو 2022, 03:35 مساء
صالح الحاراتي

لى صديق عزيزكلما تحاورنا فى مواضيع سياسية أو فكرية جادة ومهمة يقول لى "هذه تبي قهوة مزبوطة".. وكنت أقول له لعلك على صواب، فالقهوة هنا بمعنى "البٌن" وليس المقهى.. فهو معروف بتأثيره على مزاج الإنسان وجهازه العصبى، إذ يرتبط محتوى الكافيين في البن ارتباطًا مباشرًا مع المخ، ويزيد الشعور باليقظة والتركيز، ويعزز الذاكرة، ويحسن الحالة المزاجية ووظائف الدماغ.

ورغم التأثير الإيجابى "للقهوة المزبوطة" على وظائف الدماغ، لكنها في تقديرى، لم تفلح في اقتحام ذاكرتنا الجمعية التي تبدو عصية بدفاعاتها النفسية ومتخمة بـ "شعارات رنانة" سادت منذ زمن طويل، واستخدمها الطغاة عبر التاريخ لتخدير شعوبهم، وها نحن نرى اليوم كيف استخدمها الفرقاء السياسيون في تحشيد الأتباع، وأصبح من واجبنا وقدرنا اليوم أن نقول الحقيقة ونتحمل تبعات البوح بزيفها، من خلال تقييم موضوعي يتناول تجربتنا السياسية التي يدور معظمها حول محور الاستبداد رغم تغيير المسميات.

فى مرحلة زمنية مضى عليها الآن أكثر من نصف قرن، اتسمت بالشعارات الفضفاضة والكلام الحماسي "الوهمى"!! وقد جرت مياه كثيرة في أودية العلم والسياسة والأفكار طيلة القرن الماضي وتغيرت مفاهيم كانت مقبولة، واستجدت أفكار ومناهج أخرى.. لكن المؤسف أن لدينا عقولا لازالت تعيش في تلك الحقبة التاريخية وتهيم عشقا بتلك الشعارات الجوفاء.. ولا زال هناك من ينهل من بئر الضجيج والكلام الخشبي الذي يذكرنا بـ "دولة الطز" وما إلى ذلك من مفردات لم تجلب لنا إلا التخلف والجمود والكوارث.

ها نحن نرى الكثير ممن يتصدرون المشهد السياسي لدينا وهم يرددون شعارات وعبارات كاذبة، تتناول مسائل ليس لها علاقة بالواقع، فهناك مثلا من يشير في خطابه إلى "السيادة ورفض التدخل الدولي"، رغم أنه يعلم أن المتغيرات الدولية الراهنة مثل (القطبية اأحادية - والعولمة) قد أرست قيوداً على "السيادة الوطنية" للدول، وأصبح الكلام بتعبيرات مطلقة مثل (ﻻ يجوز ﻷي قوة خارجية أن تتدخل في شؤوننا) وما إلى ذلك من تعبيرات تأسر القلوب والعقول، بينما الحقيقة أنه كلام في عالم الخيال، واليوم لا يعتبر إلا لفظا نظريا وهميا، ﻷنه يقرر إطلاق السيادة دون إشارة (لنسبية المصطلح)، فالسيادة في عالم اليوم ترتبط بوضع الدولة في الواقع الدولي، مدى قوتها اﻻقتصادية والعسكرية وغيرها، وتفاوت القوة بين الدول هو من يحدد حدود السيادة، ورغم أن عبارة "الحفاظ على السيادة" لها قيمتها المعنوية، لكنها مفقودة اليوم بل صار بيننا من هو على استعداد في تواصله وتحالفه مع أي طرف أجنبي أن يتخلى عن كل شيء في سبيل قبوله كطرف فاعل في المشهد السياسي.. وما حقيقة كلماته وشعاراته الفضفاضة عن السيادة إلا ذر الرماد فى العيون وتخدير الجمهور الموالي له٠

ورغم ذلك التدليس، فالكثير ممن التقيت بهم يرون بشكل واقعي أننا عاجزون عن إدارة أمورنا وحياتنا وخلافاتنا بشكل سلمي وحضاري، ويقولون أننا بحاجة ماسة لتدخل دولي حقيقي على الأرض لنزع السلاح والمساعدة في بناء الدولة المنهارة، وسمعت هذا كثيرا.. ولكن أصحاب هذا الرأي يخافون الإفصاح علانية عن تلك القناعة خوفا من أن ينالهم التخوين وربما التكفير !

"القهوة المزبوطة" لن تفلح أيضا في مسألة أخرى تتعلق بإعادة تقييم مسلماتنا وقناعاتنا وتطويرها وتغييرها، فهناك متغيرات كثيرة جرت في العالم ونشأت أفكار وتطورت على ما كان معروفا.. وكمثال لذلك نلاحظ أن الكثير من المضامين الفكرية لتوجهات كانت سائدة في القرن العشرين قد تغيرت، وطور معتنقوها من مضمونها.. فأهل اليسار مثلا، ليسوا كالنموذج السابق في القرن العشرين، ولكن أصبح يقترب من "الليبرالية الاجتماعية" التي تدعو إلى احترام الحرية الفردية والتسامح، وتقر بأهمية حق التملك بحيث تدعم اقتصاد السوق الذي يسمح بالملكية الفردية لوسائل الإنتاج مع تنظيم الدولة للسوق بما يحقق التنافس الاقتصادي العادل. أي توظيف عناصر من الرأسمالية والاشتراكية معًا لتحقيق موازنة بين الحرية الاقتصادية والمساواة بما يخدم الصالح العام .

إن الليبرالية الاجتماعية تقع بين الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية. فهي ترفض الاقتصاد الرأسمالي المطلق الذي لا يحق فيه بتاتًا للدولة التدخل في الملكية الخاصة (خلافًا لليبرالية الكلاسيكية) بينما تقبل بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (خلافًا للاشتراكية) مع دعمها حق الدولة في التدخل لتحقيق مصلحة الأقل انتفاعًا من الحرية الاقتصادية.. وأظن أن "الصين نموذج لذلك التغيير".

في تقديري أن الكثير من أهل اليسار لدينا لم تتغير فهومهم رغم التغيرات التي طرأت على نظرائهم فى عوالم أخرى بعد سقوط تجربة الاتحاد السوفيتي، وكثير من "القوميين" كحزب البعث والناصريين نموذجا، لم تتغير قناعاتهم أيضا ولم يطوروا من رؤيتهم ، ولا زالوا يرددون نفس الشعارات التى كنا نسمعها عبر إذاعة صوت العرب في ستينيات القرن العشرين رغم فشل الأنظمة التي قامت على ذلك الأساس.

وأخيرا، سألت صديقى: "هل تجدي القهوة المزبوطة" في تحفيز العقول على تغيير مسلماتها؟
أظن الأمر أكبر من ذلك، فما رسخ في العقول بفعل التنشئة الاجتماعية يحتاج لجهود كبيرة حتى تتغير الثقافة السائدة.