Atwasat

محمية الديمقراطية وخطر الانقراض

سالم العوكلي الثلاثاء 05 يوليو 2022, 03:40 مساء
سالم العوكلي

المحمية الطبيعية أو المنطقة المحمية هي منطقة جغرافية محددة المساحة تُخصص للمحافظة على الموارد البيئية المتجددة وتطبيق النظم الجيدة لاستغلالها، ويشرف عليها من قبل هيئة معينة، تتميز هذه المناطق بأنها قد تحتوي على نباتات أو حيوانات مهددة بالانقراض مما يستلزم حمايتها من التعديات الإنسانية والتلوث بشتى الصور. لكن ثمة محميات للقيم الإنسانية وللجمال لا ينتبه لها أحد إلا بعد أن تغزوها آفة انقراض هذه القيم.

لم أزر لبنان إلا العام 2012 في زيارة سريعة، لكنها كانت دائما حاضرة في وجداني ووعيي، عبر قصائد كل الشعراء العرب الذين لاذوا بها من هجير الصحراء والقمع، وعبر النثر الذي تدفق من ينابيعها دون خوف أو رقابة أو وجل، عبر أفلام السينما التي نزحت إلى شوارعها وجبالها تطرز حكاياها بمحيط جمالي منتشر في كل التفاصيل.

وعبر موسيقى الرحابنة وشعرهم الممزوج بروائح غاباتها وبياض ثلجها وأصوات البوسطة ومقاعد العشاق وقطعان الرعاة المساقة في دروب غاباتها. الرحابنة الذين صنعوا واحتهم الموسيقية والشعرية في قلب ضجيج يدعي أنه موسيقى، والذين تجاوزهم النقد العربي حين لم يضعهم في قلب الحداثة الشعرية، في ظل اعتقاد متعال بأن الشعر هو المكتوب بالفصحى فقط، وعبر اللهجة اللبنانية الرطبة كقطرات الندى على أطراف الأوراق، وعبر صوت فيروز الذي كأنه قادم من السماء أو معزوفة ناي لراع وحيد على تخوم ضيعة بيوتها مهجورة حين صار سكانها صدى وعشبها غطى الدراج.

كم زارتني بيروت في مناماتي وفي أحلام يقظتي حالِما أن أفر إليها يوما بحماقاتي المؤجلة، وأن أنضوي في سرب حالمين احتضنتهم مثلما تحتضن الروضة أعشاش العصافير المهاجرة، وكم من وطن عشنا فيه وعاش فينا دون أن نطأ أرضه.

لبنان محمية الديمقراطية وحرية التعبير التي نزح إليها المقموعون مرارا، قاومت لسنين كل عوامل التلوث المحيطة بها من كل جانب، ولم تصمد الواحة طويلا حين سُرِقت ظلالها، وانتهكت جنوبها آلام أرض المسيح، وحمل لها (هوا الشمال) الذي كم تسرب من أغاني فيروز ظلام العمائم ودخان الدكتاتوريات السام، وفي جسدها النحيل بين الشرق والغرب ذبلت بساتين البقاع وجف النبيذ في ضروع الكرْم.

ظلت لسنين محمية صغيرة في خاصرة هذه الأمة تقاوم خطر انقراض الجمال في رقعة تزحف فيها المسدسات وأدوات التعذيب صوب كل صوت يغني الجمال، وترطن فيها المنابر بمرثيات من التجهم تغتال الإناث والأعياد والأوتار والقصائد في مهدها.

وتحولت بيروت من كون يتسع لأحلام الأرض إلى عصفورة شجن تهرب من شجرة إلى شجرة كي تراوغ الرصاص الذي انهمر عليها من كل حدب وصوب، وصار وطن الأحلام دون وطن، وضاع زمنها في الزمن العربي، نتتبع في نشرات الأخبار مراثي هذا الفردوس الذي غزاه التتار فعاثوا في ثقافته خرابا، وقوضوا الكحل في العيون والحبر في الأقلام.

كتب الشاعر علي بدر الدين، الذي لم تمنعه دراسته في النجف والعمامة التي وضعوها على رأسه جورا من أن يحلم وأن يعبر عن أمانيه شعرا في الظل، قصيدته الفارهة: «أنـا يا عصفورة الشجـنِ .. مثل عينيك بلا وطـنِ / بي كما بالطفل تسرقه .. أوّل الـلـيل يـد الوسنِ/ واغتراب بي وبي فرحٌ .. كارتحال البحر بالسفنِ/ راجعٌ من صوب أغنيةٍ .. يا زمانا ضاع في الزمـنِ/ أنا يا عصفورة الشجن/ أنا عيناكِ هما ســــكني».

كان علي بدر الدين يكتب الشعر بخوف في أرض كانت ملاذ الشعر الخائف، ويخبئ قصائده كأنها أدلة جريمة، إلى أن جاءه صديق مطلع على أسراره، وعرف ضيق حاله، وكان يعرف أيضا أن لديه كنزا من قصائد الغزل كتبها منذ عمر السابعة عشرة، وعرض عليه أن يبيعها لملحنين كي يسد بها رمقه.

وبعد تردد وافق بشرط ألا يُعلن عن اسمه لأنه في قبضة مؤسسة تُحرِّم وتُجرِّم كل ما يمت للجمال بصلة، وخوف العشيرة الدينية من أن يكون ابنها مارقا ويحس بالحب أو بالجمال، وهو من قال: «لولا العشيرة لكنت خير عاشق لا يأبه لا بقائل ولا بحسيب/ ولبحت حبي للملأ ولأهلك وما انفك لومي صاحب ونسيب / فليعتقوني لوجه الله وليتركوا لومي وليحسب أني ما كنت إلا بغريب / فأنا الحائر بين واجبي وعرفي محافظ على شرف القبيلة والجلاليب/ فأنت الدواء لعلتي ومصابي ومالي أحد سواك من طبيب/ ولسنا للقبيلة مطلب ودعاء فلا أنت مرضعة ولا أنا بحليب».

رتب له الصديق لقاء مع عاصي الرحباني الذي لم يصدق بداية أن ما سمعه من قصائد من تأليف طالب عشريني في قبضة حوزة دينية، واشترى عاصي أكثر من قصيدة مقابل 30 ليرة لكل قصيدة، قبل أن تتحول الليرة إلى كاغط، ورق الكيلنيكس أغلى منه، وصدح صوت فيروز بأغان مجهولة المؤلف: «أي وهم أنتَ عشت به .. كنتَ في البال ولم تكنِ».

وكان الشاعر وظل مجهولا ولم يكن. حتى عُثر على جثته، العام 1980، في أحد أودية جنوب لبنان، وقد اخترق جسده وابل من الرصاص. في تلك الفترة، كان جنوب لبنان مسرحا لنشاطات وعمليات وجرائم عشرات الأجهزة الأمنية العربية والأجنبية فضلا عن جهاز الموساد الإسرائيلي. وكان الجحيم يُصنع على مهل في قلب جنة العرب الذين خانوا حنانها وجمالها. مقتل هذا الشاعر الذي تنازع روحه تجهم الحوزات ولمعان الجمال ومجازات الشعر العاطفي يمثل سردية كلما حدث لهذه الواحة التي انتصر فيها سدنة التجهم والخراب، وأحاطت العمائم بكل ألوانها بهذا البلد الصغير وخنقته.

كثيرا ما يؤرخ لبداية زراعة الفتيل في واحة لبنان بالعام 1980، حيث بدأت الاغتيالات في الجنة السابقة وأصبح الخوف يتسكع بأبهة في كل الدروب التي مشى عليها العشاق دون خوف، وفي كل المسارح التي صدحت فيها الموسيقى تطرد أشباح الخوف التي تتأهب خارج حدود لبنان للانقضاض عليه، وكان مسرح الرحابنة الغنائي ذي الشجن السياسي يهجس بهذا المصير، وكأنهم يعرفون أن وجود أنثى جميلة في وسط دائرة من الفحول المهوسين لن يطول كثيرا، وأن هذه المحمية، محمية الجمال عرضة لأن ينقرض فيها الجمال بسبب العواصف التي تهب من كل اتجاه.

ووصف الشاعر سعدي يوسف مأساة لبنان في سؤال وجهه لطفلة في بيروت: من أين تأتي طائرات العدو، فرفعت سبابتها وقالت: من هناك «وكانت سبابتها تمسح العالم كله» نعم العالم كله تآمر على هذه الأرجوحة التي كانت تخفق هواء هذه المنطقة القاحلة.

الكثير من الأعمال المسرحية الاستعراضية التي وضعها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، حملت رسائل في الحب بكافة تجلياته، وقضايا الإنسان النازع صوب جدارته بالحياة في بعدها النضالي، ترافقت مع ثورات التحرر العالمي التي غزت الشارع البيروتي في ستينيات القرن الماضي. والقاسم المشترك في معظم مسرحياتهما هو الغريب الذي يأتي من المجهول ليرمي الفتنة ويحرض الأهالي على القتال.

لبنان كانت الدولة العربية الناشزة عن إيقاع المنطقة، الوحيدة التي لا تمر بها الصحراء، والوحيدة التي يتداول فيها مصطلحات (الرئيس السابق) والمعارضة والصحافة الحرة.

توقف حلمها وحلمنا بها حين تحول دستورها التوافقي إلى عقد بين قوى تحتكم للسلاح وميليشيات تحترف الإقطاع السياسي، وتوقف عند اغتيال الشاعر الذي تصارع في داخله سلطة الحوزة والعشيرة، والتوق إلى الجمال والفتنة والشعر، لأنه يمثل نموذجا لما حدث للبنان واختزالا لما يدور فيها من صراع وفساد حتى الآن، فكل فكرة تتحول إلى ميليشيا وكل عقيدة تتحول إلى فصيل إعدام، تتحول تلك الحوزة التي شاء القدر أن يولد فيها شاعر بهذا الجمال إلى حزب وميليشيات ودولة داخل الدولة، مثلما تحولت جمعية دعوة إلى تنظيم أممي منه تفرعت كل جماعات الإرهاب، أو تتحول آية في القرآن إلى جهاز شرطة من حقه أن يشق قلوب المواطنين ويحاكم نواياهم ويجرهم غصبا إلى المعابد، ومثلما تتحول مادة في الدستور عن الشريعة كمصدر وحيد للقوانين إلى فتيل انفجار يحيل كل الدستور إلى شظايا.

ودائما الجمال هو هدف مؤسسات التجهم القابضة وحدها على الحقيقة.

يقول الابن الضال زياد رحباني ما فحواه، إذا كان لبنان بهذا الجمال كما كتب عنه الرحابنة فمن أين جاء هذا العنف وهذا الخراب؟ وشق زياد طريقه النيتشوي المختلف. فهل كان الخلل في النموذج الديمقراطي اللبناني بنيويا ساعدا على تفعيل الرياح الساخنة التي هبت على هذه الواحة من كل الجهات في تقويض هذا النموذج؟. هذا موضوع آخر.