Atwasat

السباعي: كان زمان!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 28 يونيو 2022, 11:40 صباحا
أحمد الفيتوري

لا تبالغ في شيء، ماعدا قلة
اكتراثك، لتكون أشد تضامنا

مع نفسك، ومع الآخرين ..
أنا على يقين بأنك تتساءل عما إذا كانت قصيدتك جديرة
بأن تكون أغنية شديدة القوة، بالغة العنف.

ليس هذا هو المهم ..
المهم يكمن في حالتك الشعورية.. في موقفك.
لقد سلمت معي بأنه ليس من تنافر بين القلم، والأغنية العنيفة..
شعر: مالك حداد

كتاب صدر مثل كتب كثيرة لم يلفت النظر، لأنه ككل كتاب متميز، لاينشد الأضواء، بل هو ما يسلط الضوء، وفي هذا شابه كاتبه، ومن شابه أباه ما ظلم: إنه "كان زمان"، مذكرات الموسيقار الليبي وخبير الموسيقى عبد الله السباعي، مَن مذكراته كحياته، تشي بأنه ممن يصنعون الحياة بتؤدة وعلى مهل، ومن الظل ينسجون الضوء ما ينير الطريق.

كنت اتصلت به أكثر من مرة، لنشر كتاب له، بتواضع العلماء وترددهم، لم يقل نعم لكنه لم يقل لا، حتى جاءني منه يوما كتاب ضخم تصفحته. أدهشني أنها مذكرات موسيقي، منح كل حياته وروحه للموسيقى، وما هناك شبيه لمثل هذه المذكرات في اللغة العربية، غير نزر يسير. عزمت على نشرها بأي حال، ولو على حسابي الشخصي، وهذا ما حصل، وإن نشرتها بسم دار ميادين، فالحق أن خيرا ما فعلت، فهي صدفة ثمينة أن نقرأ ما ليس متيسرا.

وفي تمهيد مفيد، كتب عبد الله السباعي، موضحا كيف تيسر له، ما ليس بالمتيسر في مجاله: كيف أنه كما هو أستاذ الموسيقى، هو أستاذ في مذكراته، فحدث قال: "في بداية عام 2003، طلب مني الصَّديق العزيز زليْ عصمان، رئيس تحرير صحيفة الجماهير، الصادرة عن مكتب إعلام مصراته ، أن أساهم بالكتابة في تلك الصحيفة.

وقد تناقشتُ معه في بداية الأمر، بعد قبولي وترحيبي بالعرض، عن نوع وشكل المساهمة وموضوعها. وبعد تفكير لم يدُم طويلا اقترح زليْ، أن تكون مساهمتي على هيئة سرد لمسيرتي الفنية، ودراستي التخصّصية في علوم وفنون الموسيقا النظرية والعملية، بالداخل والخارج إلى جانب دراستي العلمية الأكاديمية، التي سبقتها بمراحلها المختلفة، والتطرق بالتفصيل للأحداث، والذكريات الماضية.

بالإضافة إلى الحديث عن خطوات تأسيس الفرقة الموسيقية من شباب النادي الأهلي المصراتي - السويحلي حاليا -، خلال النصف الثاني من العقد السادس من القرن الماضي، وما حققته الفرقة من نجاحات فنية بالداخل والخارج على مدى أعوام طويلة مضت.".

هكذا إذا فعلت الصحافة، مع شيء من بهارات محاسن الصدف، والقاريء لـ "كان زمان" سيعرف كيف كان الزمان، ليس في حياة كاتب المذكرات فحسب، بل وسيطالع إضافة إلى الزمان كيف كان المكان، فالمذكرات في هذا كما سيرة مكان، خاصة مدينة مصراته، التي لم تكن مدينة تجارة كما تُصور عند كثيرين، من ينسون أن أسماء علم في البلاد، من كتاب وأدباء وفنانين، أصيلو هذه المدينة.

أما لماذا "كان زمان"؟، فإن السباعي لا يترك العنوان دون عنوان، يبين علاقة اسم الكتاب بالمتن، فالموسيقي موسيقي في كل حال:"... وطلب مني زليْ، اختيار وتحديد عنوان لمقالة، سيُتابعها قراء الصحيفة، على امتداد رقعة انتشارها وتوزيعها، وبعد تفكير طويل اهتديتُ إلى اختيار شطره، من مطلع أغنية لسَّه فاكر كان زمان.

وهي من روائع ما تغنَّت به كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، من تأليف الشاعر المبدع المرحوم عبد الفتاح مصطفى، مؤلف أعمال خالدة تغنَّتْ بها كوكب الشرق خلال عقود طويلة مضت.... وصاغ لحنها عملاق الموسيقا العربية الشرقية الأصيلة الفنان المبدع ذائع الصيت الأستاذ المرحوم رياض السنباطي.".

ثم يسترسل "وبعد كتابة ونشر العشرات من الحلقات بصحيفة الجماهير، حتى وصل عددها إلى ستين حلقة، توقفتُ عن المساهمة في الصحيفة لأسباب طارئة، ولكني واصلتُ كتابتها في البيت بين الحين والآخر حتى وصل عددها 175 حلقة. والمادة المنشورة في هذه السيرة، تشمل الجزء الأول، وهي فترة زمنية امتدت بين عامي 1943 و 1996، أي ثلاثة وخمسين عاما كاملة بدأت من يوم مولدي، وانتهت بحصولي على شهادة الدكتوراة في علوم الموسيقا العربية من أكاديمية الفنون بالقاهرة عام 1996".

المذكرات تحفل باسترسال سلسلس، فتلم بتفاصيل لا يلم بمثلها، إلا كمثل السباعي الموسيقي، من يدوزن النغم، من ينسج الهارموني بين الاجتماعي والثقافي، بين الرؤية والرؤيا، ولهذا فالمذكرات رحلة في الزمان والمكان، توضح المكابدات، وكيف تذلل الصعاب، من روح طموحة وثابة، لكنها ليست على عجل من أمرها.

إن "كان زمان"، درسا موسيقيا بروح موسيقار في الحياة، وفهم شفاف وتناغم مع الثالوث الأفلاطوني: الحب والخير والجمال.