Atwasat

إضاعة البوصلة

صالح الحاراتي الخميس 23 يونيو 2022, 10:15 صباحا
صالح الحاراتي

بداية لابد من الإشارة إلى أن يقيني الذي لا يتزعزع هو أن عقارب الساعة لن تعود للوراء .

سأحكي لكم حكاية صديق افتراضى قيل لى إنه يعتبر من منظري "اللجان".. وقالوا عنه إنه مثقف وعاقل وحكيم، وليس من الغوغائين. تابعت ما يكتب على صفحته في وسيلة التواصل الاجتماعى "الفيسبوك" لفترة غير قصيرة، وكلما فاجأني برأي "ملتبس جماهيريا" تجاهلت الأمر. فالطبع يغلب التطبع كما يقال.. كانت نفسي تحدثني عن قصة "ذيل الكلب اللي حطوه 40 عام فى قصباية وطلع معوج فى النهاية".. ولكني أتجاهل تلك القصة أيضا ..

آخر ما رسم بقلمه الرشيق كان يتحدث ويبرر ويؤكد على أن خرافة "العادل المستبد" هي أساس وركن متين من قناعاته ورؤيته للحياة!.

لم أكن أتوقع منه ذلك. فالحكمة تستدعي اليقين بعدم السير في طريق جربناه وكان مكتظا بالمآسي والآلام حتى لا نستمر في حلقتنا المفرغة من الاستبداد بمختلف تمظهراته.. استغربت أن يذهب به تفكيره (وهو المشهور بالحكمة) إلى خرافة "العادل المستبد" التي جربناها طوال تاريخنا قديما وحديثا دونما فائدة.. وهو لا زال يصر على استدعائها ويعتقد بنفعها .

"العادل المستبد".. هو الوهم التاريخي وفيروس ثقافتنا الذي يفوق فيروس كورونا، وما تكتبه ليس إلا تأكيدا على أنه ﻻ وجود فى عقلك وفهمك وثقافتك يقين بشيء يسمى "تداول السلطة" كمرتكز أساسي للحكم الرشيد.. وقناعتك تلك لن تآتي لنا بجديد، وستذهب بنا إلى الدكتاتورية، أي نفس الحالة المرضية المزمنة لكي نواصل تأرجحنا كبندول الساعة بين خيارين، الاستبداد الديني "ولاية الفقيه" أواﻻستبداد السياسي المشوه متمثلا في دكتاتور جديد يمضي بنا إلى حقبة جديدة من الاستبداد .

الدعوة إلى العادل المستبد دعوة عجز وإحباط ونكوص عن السير باتجاه نظام حكم رشيد يحقق لنا الحرية والعدالة الاجتماعية.. ولكن يبدو أن هناك من يعيش بيننا بفكر العصور الوسطى، لأن كلمة "الاستبداد" في المرجعية العربية القديمة كما يقول عابد الجابرى، لم تكن تحمل ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم.. لقد كان "الاستبداد" يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة: "إنما العاجز من لا يستبد".. أما في عصرنا الحالي فإن للاستبداد مضمونا مختلفا تماما عما كان عليه فى العصور السالفة، ويتبدى اليوم في القمع وغياب الحريات والعدل حتى صار اقتران الاستبداد بالعدل فرضية وهمية بسبب استحالة الجمع بين نقيضين.. فالاستبداد اليوم لا يساوي إلا الطغيان .

يبدو وبسبب طول مدة تعامل صديقى الافتراضي مع الطغيان، ألف ذلك الحال، ولم يعد يجد حرجا ولا غضاضة في الحديث عن إيجابياته، وما فعله من أجلنا، وحتى إذا افترضنا أن له إيجابيات "حضارية عملاقة" كما كان يتردد على أسماعنا، فما قيمة هذه الإيجابيات إذا كان ثمنها تدمير الإنسان وتحطيم قيمه، وتحويل الشعب إلى قطيع من المنافقين، وشخصيات تطحنها مشاعر الدونية والعجز واللاجدوى؟.

إن أي إرجاء للديمقراطية بذريعة أن الشعب غير مؤهل لها، يعني بقاء الديكتاتورية التي لن ترفع قطعا من أهلية هذا الشعب لنقيضها الديمقراطي، وهي حتما وبكل قوة ستفعل العكس، كما أنها لن تقدم له أي بديل صالح آخر؛ لأن بديل الديمقراطية سيكون هو الديكتاتورية الفاسدة، التي ستفسد أية أهلية موجودة عند الشعب للديمقراطية... وتفسد كل جوانب حياته الأخرى، وبما أن هذا الحال لا يمكنه أن يدوم إلى الأبد، فسيأتي اليوم الذي يصل فيه هذا التردي إلى حده الأقصى، فينتفض الناس ويتمردون ويثورون، وبقدر ما تكون آثار الاستبداد والفساد أكثر حدة، تكون ردة الفعل هذه أقرب إلى الانفجارات الاجتماعية الهدامة منها إلى الثورات البناءة، ولذلك تكون كل إطالة في أمد الديكتاتورية عبارة عن رفع لتكاليف عملية الخلاص منها، وجعل أثمانها باهظة! وهو ما هو واقع اليوم .

يمكننا أن نقول بثقة لأي شعب، إنه إذا أراد صحة بيولوجية سليمة، فعليه استخدام وتطبيق الطب الحديث، ويمكننا أن نقول له بالمثل إنه إذا أراد نظاما سياسيا اجتماعيا سليما، فعليه استخدام أساليب الحكم والسياسة العلمية الحديثة المتمثلة بالديمقراطية.. أما أطروحة "المستبد العادل"، فهي تتشابه مع أحلام السذج بفارس يأتي على جواد أبيض ليقضي على الظلم ويصنع المعجزات كما في حكايات الجدات.

واخيرا، يبدو لى ان أسوأ ما يخلّفه اﻻستبداد (وبدون تعميم) هو إنتاج وخلق فئة من الكَتَبة وليس الكُتاب؟

الكُتّاب يكتبون للناس ويتحملون تبعات ذلك.. أما الكتبة فيكتبون للسلطة وينحازون لها، وحتى لو تغيرت السلطة، فهل يصح القول أن "من شب على شئ شاب عليه".