Atwasat

عن «الاسكتش» الصحفي

جمعة بوكليب الأربعاء 22 يونيو 2022, 11:24 صباحا
جمعة بوكليب

"الاسكتش" الصحفي السياسي فنٌّ راق، لا تتوفر بينته عربياً، لانعدام وجود حياة سياسية وبرلمانية ديمقراطية، وحرية رأي كفيلة بإطلاق سراح مواهب من يودون خوض غماره. وهو فنٌ يتطلبُ من كاتبه أن يكون بمواهب عديدة: أسلوبٌ مميز يتعامل مع اللغة كمن يغرف ماءاً بيديه من نهر دافق، وخفة دم استثنائية، وسخرية لاذعة، وعين ثاقبة تلاحظ كل نأمة، وأذنٌ تعتاش على حبّ النميمة و " القصقصة"، والأهم من ذلك فهم آليات اللعبة السياسية وخلفيات اللاعبين في ميادينها.

حين أبدأ نهاري بقراءة الصحف، ألجا عادة إلى الصفحات الرياضية أولاً، وهي عادة قديمة، مازالتْ تتبعني وأطيعها. بعدها، أهرع إلى زوايا كُتّاب "الاسكتش" السياسي لأنعشَ قلبي بمشاركتهم الضحك على آخر ما أستجد من ( خلابيط) أهل السياسة في بريطانيا: من الحكومة والمعارضة.

الدنيا بدون ضحك جحيمٌ لا يطاق. ومتابعة الشأن السياسي بجدّية أكثر من اللازم مهلكة. وأفضل الأمور الوسط. بمعنى أن تتابع الشأن السياسي لإشباع فضولك، وفي ذات الوقت، تتابع ما يكتبه كتّاب الاسكتشات السياسية، لتتاح لك فرصة الضحك، والسخرية من اللاعبين في ملاعب السياسة، كونهم بشرا بلا قلوب، وديدنهم الكذب والبلعطة، وأنهم، من الأخير، يقولون ما لايفعلون. ولابد من الاعتراف بأن نصيبهم من الذكاء والدهاء والانتهازية أكثر من غيرهم.

بدايتي مع كُتّاب الاسكتش السياسي، كانت وليدة صدفة، كما جئنا نحن بالصدفة إلى هذه الدنيا، من دون اكتراث الوالدين بالحصول على موافقتنا ما إذا كنا نرغب في ذلك أم لا. وهذه مبالغة مني حقيقة، ناجمة عما أعانيه من متاعب دنيوية لا تنتهي، ولم أعد قادراً على تحمّلها، أو التغلب عليها. لكن البداية كانت حين وصلتُ إلى بريطانيا لاجئاً، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وشمّرت عن ساعديَّ متوكلاً على الله، وخضت في مسارب حياة جديدة بين قوم غرباء ومدن غريبة وباردة، وأناس بأديان مختلفة وألسنة متنوعة، وألوان عديدة. ونظرا لحبّي القديم لقراءة الصحف، بدأت في اقتناء ما وجدته أمامي من الصحف البريطانية وهي كثيرة، وكان ذلك ضرورة لمعرفة مسارب توجهاتها ومصباتها ومن يرفدها مالياً. وأخيرا استقر رأيي على الانضمام إلى قراء صحيفة الجارديان. وهي من الصحف المحسوبة على التيار الليبرالي ويسار الوسط. تلك الأيام كان كاتب الاسكتش السياسي بالصحيفة شخصا اسمه "سيمون هوجارت"، وانتقل في السنوات الأخيرة إلى العالم الآخر، ولا أستطيع الترحم عليه، رغم شدة حبي له، خوفا من أن تنفلق السموات فجأة وتصب كل غضبها على راسي، وليس لديَّ ما يكفي من الوقت والصبر للخوض في ذلك أو تحمل تبعاته، بعد أن رأيت وسمعت وقرأت ما حدث مؤخراً عقب اغتيال المرحومة شيرين أبو عقلة، مراسلة قناة الجزيرة في الأراضي المحتلة على أيدي القوات الصهيونية.

كنتُ في البداية أقرأ الأخبار والتحليلات السياسية، ثم بدأت تجربة قراءة ما يكتبه السيد هوجارت، وكان حبّاً من أول نظرة. وسرعان ما بدأت التعرف على نوعية جديدة من كتابة سياسية صحافية لم أتعود عليها. مدهشة، وباعثة على الضحك والسخرية، ولا تنقصها الجدّية. ولم اقرأ لغيره من كتّاب الاسكتشات في الصحف الأخرى إلى وفاته. حينها، حاولت التواصل مع خليفته، لكن الشرارة المتوقعة لم تحدث، فانتقلت إلى متابعة كتّاب آخرين في صحف أخرى. وسرعان ما بدأت جسور التواصل تمتد بينهم وبيني حتى توطدت. وهذا يعني أنني غيّرت من عاداتي. إذ بدلاً من قراءة الجارديان، صحيفتي المفضلة، صرت أحرص على قراءة صحف أخرى، ما كنت أتوقع في يوم من الأيام أنني سأدفع من جيبي مالاً مقابل قراءتها. هل هذا يعني أن تغييراً طرأ على بوصلتي السياسية؟ وهل كان ذلك يعني أنني مع تقدم العمر، ومرور الأعوام، انتقلت إلى ضفة سياسية مخالفة؟ ربما. لكن الأرجح هو أنني تغيّرت، والتغيير ليس بذلك المعنى، بل بمعنى أنني بعد إحالتي على التقاعد، صرت أملك كثيراً من الوقت، يتيح لي فرصة الاطلاع على صحف بتوجهات سياسية لا تتفق مع وجهة نظري. وهناك تفسير آخر، وأعتقد أنه الأصحُّ، وهو أن التزامي بكتابة زوايا أسبوعية، في عدة مواقع وصحف، فرض عليّ توسيع دائرة اهتمامي لتشمل صحفاً من عدة مواقع سياسية متباينة، توفر لي، كمعلق صحفي، فرصة أكثر لمتابعة الشأن السياسي من عدة مواقع وزوايا، و استيعاب وجهات نظر مختلفة، تمكنني من الحفاظ على موضوعيتي لدى اختياري الكتابة والتعليق على حدث سياسي أو غيره.

ما يميز كتّاب الاسكتش السياسي في بريطانيا أن أغلبيتهم من الذكور، ولا يكتفون بكتابة الاسكتش، بل يساهمون بالكتابة في شؤون أخرى، والثقافية منها خاصة، فتجدهم في صفحات عرض الكتب، وفي متابعة النشاط المسرحي، وآخر ما يعرض من أشرطة سينمائية. وأنهم خلال الأزمات السياسية يزدهرون ويتألقون، ويتصدرون الصفحات الأولى.