Atwasat

والبنود الخافقات

سالم الكبتي الأربعاء 22 يونيو 2022, 11:22 صباحا
سالم الكبتي

استقلت الجزائر يوم الخميس الخامس من يوليو 1962 . كانت فرنسا قد وصلت إلى شاطئ سيدي فرج قرب العاصمة عام 1830. دام الاحتلال قرنا من الزمان ويزيد. وحين إعلان الاستقلال ثمة آثار للعدوان.. إحراق مكتبة الجزائر. بقايا مراكز المستوطنين والجيش السري وعملائه.. والحركيين وقاعدة عسكرية في عنابة.

لكن الجزائر استقلت بعد أن عقد الثوار العزم على تحقيق التحرير والاستقلال. كانت الصور تتراءى عبر أطياف التاريخ وظلاله وألوانه المختلفة. المقاومة والتضحيات.
البطولات والأساطير ووقفة الشعوب مع الجزائر عبر تلك المشاهد. ذلك كان تاريخا وحده. أسطورة وحده. والجزائر استقلت في كل الأحوال بعد المعاناة والعذابات وسيول الدماء في الجبال والقرى والأحياء. ملحمة إنسانية معاصرة وتاريخية لا يغفلها سوى الذين يغفلون التاريخ ولايعرفونه ولايدركون تفاصيله وخطوطه العريضة الممتدة هنا وهناك.

ظروف معقدة خاضتها المقاومة في الجزائر من النواحي الإنسانية والوطنية والتاريخية، لكنها نفذت من عنق الزجاجة ببسالة منقطعة النظير لتجد نفسها في ركام آخر.. في لحظة الولادة عشية الاستقلال ذلك الصيف منذ ستين عاما.

وكانت هناك مفاوز وطرق ومفترقات وعلامات لا يمكن تجاهلها حين وقع الانفجار لحظة الولادة الصعبة: جيش التحرير بتشكيلاته الذي دخل العاصمة تعلق بملابسه آثار أغبرة المعارك في الجبال. بن بلة ورصيده التاريخي مع رفاقه الثوار الآخرين. وبن خده الصيدلي ورئيس الحكومة المؤقتة بعد فرحات عباس الذي ظل يسأل عن هويته الجزائرية ويردد على الدوام.. من نحن؟
مفازة الدروب الصعبة تتحدد في (وحدة الثورة) في وجه كل الظروف. الوحدة التي تظل المركز والعصب وتسند الثوار أمام الجوائح.

وضع معقد وصعب عشية الاستقلال تواجهها الجزائر. العاصمة وكل المدن والتلال وماسحي الأحذية والفقراء وأبناء الثورة والأجيال التي ضحت بلا انقطاع منذ إعلانها في أول نوفمبر 1954. اشتعلت الخلافات بين الأطراف. الثوار كانوا يرون في أنفسهم أنهم - وهم أصحاب التضحيات الذين أقسموا على تحرير الجزائر -.. يرون أنهم الأقرب إلى المسؤولية وتولي الأمور عقب الاستقلال. تضحياتهم كانت كبيرة. وكان ثمة تقاطع مع من كان في الخارج يناضل في رأيهم عبر القاعات والفنادق الفخمة والسيارات الرسمية. وتواجهت عبر هذا الخلط القوى التي تود حكم الجزائر. جبهة التحرير بتاريخها وأدوارها والحكومة المؤقتة والقوات القادمة من غبار المعارك في الجبال البعيدة.
في بنغازي على بعد آلاف الأميال من الأوراس تلتقي الأطراف. تحاول الحكومة الليبية رتق ما هو في طريقه إلى أن ينفتق. وذلك صعب للغاية بكل المقاييس والظروف والأحوال المحيطة والدائرة. يصل علي صبري من القاهرة مبعوثا من عبدالناصر ومعه محمد حسنين هيكل. والخلافات تستعر قرب سباخ المدينة. ثم تنتقل الاجتماعات إلى مقر البرلمان الليبي في طرابلس ويكثر الشد والجذب وترفض الحكومة المؤقتة برئاسة بن خده كل المحاولات والوساطات والتدخلات ويغادر إلى تونس فجأة ويترك كل شيء معلقا في قاعة البرلمان قرب الحديقة العامة حيث طأرد بن بلة عام 1955 عضوُ عصابة اليد الحمراء الذي أراد اغتياله في فندق أكسلسيور المجاور ولم يفلح، لكن رجال البوليس الليبي تمكنوا من قتله عند الحدود الغربية للبلاد بقيادة أشهر ضباطه العقيد عبدالحميد بك درنة.

كان من قام بالمحاولة الغادرة جزائريا في الأساس. وفي النهاية - رغم الخلافات - حسم الواقع المعاش.. الأمر لصالح الثورة والثوار.. حتى لا تسرق الثورة وتضيع في هامش التاريخ وتغدو التضحيات رمادا باهتا.

الخلافات حين تنشأ بين الثوار يراها التاريخ من الأشياء الطبيعية، فهي مثل تزاحم الأضداد والثورة الحقيقية وليست المزيفة هي التي تشهد تلك الخلافات لتنقية الثورة من الشوائب والأمراض. ذلك أمر طبيعي كما قلت يراه التاريخ في صفحاته الطويلة. وقد كان الأمر كذلك في الثورة الجزائرية. منطق الثورة الهادرة. ومنطق السياسة والمصالح ولابد أن يكون الخلاف في الوقت نفسه معقدا وصعبا وتتشابك خيوطه بلا انتهاء. وحين قرب إعلان الاستقلال كان العالم مبهورا بالثورة التي شدته إليها على مدى أعوام مضت ثم حبس ذلك العالم بأسره أنفاسه خوفا على الجمهورية الوطنية التي ستشهد الجزائر ولادتها من رحم المعاناة الطويل والصعب.

والثورة عندما كانت تلتهب حمراء كالجمر في أفق الجزائر خلال الجبال والأرصفة والأرياف.. لم يتخلف أحد عن المشاركة في الثورة من الرجال والنساء. ظلت الجزائر كلها ثورة وامتد تأثيرها في الخارج. وتجاوب المثقفون والفلاسفه والشعراء وأصحاب الرأي والعقول.. تجاوبت الشعوب كلها. واختلطت هنا أسماء بن مهيدي وديدوش وكريم بلقاسم وبن بلة وخيضر وبومدين وجميلة بوحريد.. وغيرهم مع فرانز فانون الإنتيلي وإقبال أحمد الباكستاني ومفتاح الهندياني الليبي ونورالدين الأتاسي ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس السوريين وأحمد سعيد وصوت العرب.. ورأت فرنسا أن ما تقوم به عار لابد أن يزول. لقد خط الثوار بدمائهم صفحات النضال على الدرب الطويل ولم يسمحوا بأن تستعملهم أجهزة أو دولة أو مخابرات. قبلوا المساعدات والدعم ولكن ظلوا هم أصحاب القضية الرئيسيين. من هنا تختلف ثورة الجزائر عن مثيلاتها التي سقطت في دوامة بعض الأنظمة ومخابراتها فقتلت روح الثورة فيها وفي أفرادها. كان العالم كله يقف مع الجزائر دون أن يستعملها لعبة في يده. وكان الجزائريون صعاب المراس والعناد في ذلك الشأن.

لم تكن هناك حلول وسط. لم تكن هناك ميوعة. لم يكن هناك تخاذل وفي اللحظة ذاتها كان للثورة أيضا حساباتها.. وتصفياتها لمن يخون القضية ويحنث بالقسم الذي قطعه على تحرير الجزائر. القسم بالنازلات الماحقات والليالي الحالكات والجبال الراسيات والبنود اللامعات الخافقات، كما يقول مفدى زكريا في نشيده الذي كان نشيدا للثورة ولحنه الفنان محمد فوزي وأضحى لاحقا نشيد الدولة أيضا عقب استقلالها.

كنا في ليبيا دعما لاينقطع على كل المستويات الرسمية والشعبية بدءأ من الملك إلى أصغر مسؤول إلى أصغر مواطن للجزائر. لم يبخل الليبيون بما لديهم من مساندة. وكانت الأسلحة تمر عبر تلك المساعدات الليبية وتحت مواد الإغاثة بعد أن تصل من مصر المجاورة وتمضي في الشاحنات إلى مواقع الثوار في الجزائر. كانت تلك الأيام الليبية مثل بقية الأيام العربية غاية في النبل والطهارة. لجان نصرة الجزائر. التطوع. جمع المساعدات والتبرعات. الموقف الإعلامي. أصوات الشعراء والفنانيين والمثقفين والطلبة.. والشارع بكامله. كان ذلك كله صورة من صور أطياف التاريخ وظلاله وألوانه. وربما لا تصدق ذلك الأجيال العربية المعاصرة إلا بصعوبة بالغة. الموقف والمشهد يفوق الوصف والتعبير. ثم لم يتوقف الليبيون عن التوسط والإصلاح بين الأطراف عندما التقت في برلمانهم العتيد.. هل قلت البرلمان؟!.

ودائما منطق الثورة يعلو ويرتفع. التضحيات لايمكن أن تختفي من صفحات التاريخ.

أشباه الثوار يختفون وينزلقون إلى مهاوي التاريخ. وتبقى البنود اللامعات الخافقات تنهض مع الشمس رغم تقادم ومضي السنين. الثوار لا يرضون الزيف والهوان.. تلك حكمة التاريخ يجددها كل يوم في سطوره الجليلة.