Atwasat

ليبيا على صفيح الأمم المتحدة

سالم العوكلي الثلاثاء 14 يونيو 2022, 09:53 صباحا
سالم العوكلي

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شرعت الدول المنتصرة في إعادة إحياء عصبة الأمم التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى وفشلت في الحؤول دون قيام حرب عالمية أخرى أكثر وحشية، فكانت منظمة الأمم المتحدة بشكلها الحالي، وكان الهدف المضمر من تأسيسها الحفاظ على السلام العالمي ومنع نشوب حروب أخرى، ولكن مع الوقت أصبح دورها ينحسر في ما تقوم به بعد الحروب من أعمال إغاثة ومساعدة نازحي الحروب والاكتفاء بالتعبير عن قلقها من استمرار الحروب في شتى بقاع الأرض، وتحولت الجمعية العامة بمؤسساتها الخدمية إلى جمعية أعمال خيرية.

بينما جسمها الفاعل، مجلس الأمن، تحول إلى غرفة عمليات لإدارة الحروب وفق مصالح دوله النووية، دائمة العضوية وصاحبة حق الفيتو، التي تمثل فعلا ما يسمى المجتمع الدولي الذي بإمكانه التدخل في كل مكان في العالم وفرض شروطه، أو فرض عقوباته التي تتحكم فيها الولايات المتحدة. وأصبح دور هذه المنظمة مثل دور الطب الشرعي أو الجنائي الذي لا يبدأ عمله غالباً إلا مع الجثث وبعد وقوع الجريمة.

بدأت المنظمة أعمالها في منتصف القرن الماضي ببعض الإنجازت المهمة، خصوصا فيما يتعلق برعاية استقلال بعض الدول الصغيرة ودعمها خبراتيا لتستأنف مشروعها الوطني، وكانت ليبيا أول دولة تحظى بهذا الاعتراف والدعم.

ترأس جمعية هذه المنظمة في عقودها الأوَّلِ رجال بارزون كان لهم دور مهم في أن تحظى هذه المنظمة بكاريزما كونية وببعض المصداقية، رغم صراع أولئك الرجال مع الجسم المزعج في خاصرة المنظمة، مجلس الأمن، الذي غالبا ما يجبُّ قرارات وخيارات الجمعية العامة التي تتكون من جميع دول الأرض، وفي العقود الأخيرة شهدت هذه المنظمة ظهور رؤساء باهتين على رأسها، يبدون كأمناء جمعية خيرية لا حول لهم ولا قوة، يصدرون البيانات البليغة ويكتفون بالتعبير عن قلقهم كلما نشبت حرب في أي جزء من العالم، وهم يدركون أن مجلس الأمن ودوله القوية هو مهندس هذه الحروب ومديرها، وأن الولايات المتحدة التي تحظى بنصيب الأسد في تمويل المنظمة ومؤسساتها المختلفة لها اليد الطولى، وبالتالي لها الرجل الطولى التي تتسكع في العالم عبر أساطيلها النووية، وتفرض عقوباتها الاقتصادية على كل من يختلف مع رؤيتها.

وأنا أكتب هذه المقالة لاحت مني لفتة إلى الشاشة، وشاهدت خبرا عاجلا، مفاده: "الأمين العام للناتو يقول: إن الناتو ساهم في نشر الديمقراطية في أرجاء واسعة من الأرض" وطبعا لم يستشهد بحالة واحدة ولن يجد، لكن أستغرب أن ينشر الديمقراطية تحالف عسكري، لكن، في الواقع، الناتو الآخذ في التوسع في أووبا هو الاسم الحقيقي لما يسمى المجتمع الدولي.

وبالعودة إلى المقارنة بين بدايات هذه المنظمة وبين ما آلت إليه الآن، يمكننا المقارنة بين دور مبعوثها الأول، عام 1949، أدريان بيلت وفريقه إلى ليبيا (المستعمرة الإيطالية السابقة)، وبين أدوار مبعوثيها ما بعد 2011، الذين تعاقبوا عليها دون أن يستطيعوا تحريكها خطوة إلى الأمام، بسبب قصور بعضهم، أو بسبب معرفتهم بدورهم الضئيل في منظمةٍ سَرقتْ الدولُ الدائمة العضوية دورَها الأساسي، وانحرفت بأهدافها المتمثلة في تحقيق السلام والتنمية ومساعدة الدول الفقيرة صوب أن يكون مجلس أمنها مصدرا للحروب والتوترات، ومصدرا للعقوبات التي تطال الشعوب الفقيرة وتزيد معاناتها، ومُشرِّعا لحالات من الاحتلال تحت شعارات تحقيق السلام أو نشر الديمقراطية أو الدفاع عن الأمن القومي لزعيمة هذه المنظمة، الولايات المتحدة.

تنقّلَ أدريان بيلت عبر طائرة الأمم المتحدة الصغيرة التي تهبط على مطارات ترابية في كل أجزاء ليبيا، وتحاور مع الجميع، ووضع الأسس الدولية والقانونية لاستحقاق الاستقلال بعد أن تنقل بين الدول ذات الصلة بالمستعمرة السابقة، وشكّل اللجان التأسيسية، ووضع الليبيين على طاولات الحوار دون أن يتدخل في عملهم سوى بكون فريقه وعاء للخبرة كلما رغبوا في استشارة، وبعد 2011 سيقول أحد المبعوثين، طارق متري، في حوار أجرته معه الإعلامية جيزال خوري "أنا لا أذهب إلى أحد ومن يريدني يأتيني".

في رد على سؤال لماذا لم تتواصل مع جميع الأطراف؟، ومن جانب آخر، كانت البعثات المتتالية تغض بصرها عن خصوصية الأزمة الليبية، وتعتمد طرقا جُربت في أماكن أخرى، مثل التجول بالملف الليبي في عواصم بعيدة، أو عزل الأطراف الليبية في قاعات منفصلة أثناء التفاوض، مثلما كان يُفصل بين الكاثوليك والبروتستانت في حرب أيرلندا الأهلية، أو الوفد الأمريكي والوفد الإيراني في مفاوضات السلاح النووي، وهو أمر غريب عن الليبيين.

وغريب عن خبراتهم في أسس المصالحة والتفاوض، حيث اجتماعهم في مكان واحد يهيء المناخ عاطفيا لتقارب وجهات النظر وتقديم التنازلات كما حدث في تجارب سابقة، ولو أن المبعوثين تصرفوا مثل بيلت الذي قرأ مراجع مهمة عن تاريخ ليبيا السياسي والاجتماعي، وتحاور مع نخبها في كل إقليم، وفي المدن الرئيسية، حتى وصل إلى وضع تصور وخطط للشروع في العمل وفق خصائص هذا المجتمع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، لسارت الأمور أفضل.

بعد 11 سنة من تبني هذه المنظمة للشأن الليبي، نجد أنفسنا نراوح في المكان نفسه، لا نتقدم خطوة، وإذا تقدمنا خطوة مع مبعوث يأتي الذي بعده ويعيدنا خطوتين إلى الخلف، وكان آخر هذا العبث ما قامت به المندوبة بالوكالة عبر تشكيل جسم غريب لا أعرف كيف اختير ممثلوه، سُمي (ملتقى الحوار السياسي الليبي)، أو لجنة الخمسة وسبعين، التي وضِع في قلبها أشخاص كانوا جزءا من المشكلة ومستفيدبن من الأزمة، وبعضهم رحب بالعرقلة علنيا إن لم يكن المسار في صالح جماعته.

والبعض تلاحقه شبهات بالفساد وسرقة مقدرات الليبيين، مع احترام أسجله للقلة من الأعضاء والعضوات المخلصين الذين لم يستطيعوا فعل شيء حين اخترق النفوذ والمال الفاسد هذا الجسم وسار به نحو زرع قائمة سلطات غريبة، تضع ليبيا الآن أمام استقطاب أكثر حدة، وعلى شفير حرب أهلية أخرى، ورغم أن مراقبي الأمم المتحدة عبروا عن قلقهم من دفع رشاوى لكي تنجح هذه القائمة، إلا أنه تم تجاهل هذه التقارير، والمهم أن نتقدم حتى ولو كنا نتقدم صوب هاوية.

والهاوية هذا الانقسام الجديد بين حكومتين، إحداهما جاء بها ما يسمى المجتمع الدولي عبر تكنيك غريب، والأخرى جاء بها مجلس النواب، الجسم الوحيد المنتخب، بعد أن أنتهت ولاية حكومة جنيف دون أن تحقق أي مهمة من مهامها، وبعد أن سحب منها مجلس النواب الثقة لتعديها على مهام ليست من مهامها ولشبهات فساد كبير.

وقد أدرجتُ فترة الحديث عن ملتقى الحوار منشورا، أرى فيه أن تجميع أطراف مجلس النواب وإعادة النصاب له سيكون أسهل وأقل تكلفة من إنشاء جسم جديد، والأهم سيكون منطلقا من الشرعية التي انتخبها الليبيون، وفي إطار أن يكون الحل (ليبيا/ ليبيا) الذي يتحدث عنه الجميع بعد فشل كل المبادرات والاجتماعات الدولية في عواصم مختلفة.

وحين استدرك الليبيون ذلك، وجاء الحل الليبي الليبي عبر حكومة وطنية شكلها مجلس النواب وقف الجميع ضدها، في ذروة الاحتقار للإرادة الوطنية، وتفضيل حل ستيفاني الخاص على الحل الوطني الذي تمثلة سلطة منتخبة من الليبيين، بغض النظر عن ملاحظاتنا حيالها.

تقبع حكومة ادبيبة في العاصمة في حماية قوى دولية وإقليمية وميليشيات مسلحة خارجة عن كل القوانين، بينما حكومة باشاغا التي حتى الآن لا تملك سوى هذا التفويض الوطني تُبعد عن العاصمة بفعل هذه الميليشيات المتعطشة في هذا البلد لشيئين فقط (المال والدم).

بينما تذكر كل المبادرات الأخيرة في موادها أولوية إخراج المرتزقة الأجانب ونزع السلاح الخارج عن القانون، وهما تعبيران مترادفان تماما، فأي سلاح خارج القانون هو في يد مرتزق، ومصطلح مرتزق ليس مرتبطا ضرورة بالأجنبي، لكن في واقع الأمر هذه الميليشيات مرتزقة محلية، وهي غالبا تنحاز لمن يدفع أكثر وبنادقها للتأجير بكل معنى الكلمة، وما يؤزم الوضع الليبي ويجعل الحل صعبا هم المرتزقة المحليون وليس الأجانب، فهم يتحكمون في القرار السياسي، ويتحكمون في المصرف المركزي، وفي كل مفاصل الدولة في العاصمة.

وكل مبادرة تهدد نفوذهم مجهضة مسبقا عبر تحريك السلاح الثقيل والمتوسط والخفيف في شوارع العاصمة، فالمرتزق بندقيته هي وسيلة عيشه ونفوذه، وأي مبادرة تسعى لفك هذه البندقية من يده مستعد للموت من أجل إجهاضها. مندوبية الأمم المتحدة تعرف ذلك، وستيفاني التي خرجت من الباب وعادت من الشباك تعرف ذلك، لكن اختلافها عن أول مبعوث، أدريان بيلت، أنها تتصرف بعقلية الحاكم العسكري لليبيا، وتعجز عن دعم الأطراف التي تقاربت في إرهاص مهم لمصالحة وطنية بعد أن تواجهوا في حروب.

ولا يمكن المراهنة على حل لمثل هذه الأزمات إلا عبر أشخاص قادرين على طي الصفحة والمضي في لم الشمل، بينما تدعم رئيس (حكومتها) الذي يزيد الاستقطاب حدة، ولا يستطيع الخروج من خيز حركته الضيق إلى أي جهة في ليبيا، ويستنفر المرتزقة المحليين والأجانب كلما هُدد كرسيه، ويهدد علنا بحرب أهلية إذا ما فكر أحد ما في إخراجه من السلطة التي وصل إليها عبر الرشى.

والآن تلقي ستيفاني ببيضها كله في سلة حوار القاهرة من أجل صياغة قاعدة دستورية لانتخابات لن تحصل أبدا في وجود ميليشيات مارقة تسيطر على مفاصل العاصمة ومركز القرار.