Atwasat

غياب اعتزالي

رافد علي الخميس 02 يونيو 2022, 12:54 مساء
رافد علي

غياب الشارع الليبي عن قول كلمته مما يجري بالبلاد لا يزال يشكل نقطة حرجة في تاريخنا الراهن أمام الاحتفالات التي تتجمهر بالميادين العاصمة ابتهاجاً بانتصارات لفرق كرة قدم وطنية أو عالمية، كما حصل أخيراً مع فوز أهلي طرابلس على الاتحاد، وتتويج فريق الميلان الإيطالي وريال مدريد الإسباني أخيراً، وكأن الناس أضحت تلهث وراء الفرحة المستعارة في واقع متأزم منذ سنوات.

تختلف التحليلات العلمية لهكذا حالات عموماً ولا شك، فمنها من يردها لنزعة الهروب إلى الأمام، وآخر يُرجعها لرواج روح السلبية بين العامة، وهناك تفسيرات نظرية الاستلاب التي نالت قدراً كبيراً من الاهتمام الأكاديمي بطرحيها الهيجلي والماركسي، لكن نظرة تاريخية مبسطة لأوضاع متخلية عن لعب دورها كهذه الأحوال تشير إلى وجود حالة اعتزال سياسي منذ عهد التناحر في موقعة صفين- 37 هجري- حيث مثله، مع آخرين، سعد بن أبي وقاص وأبي سعد الخدري، الذين اعتزلوا الانخراط في تجاذبات السياسة بالدفع بأن الفريقين في موقعة صفين لا تفرق بين الحق والباطل، وانعزل هذا التيار بالتالي عن أحداث المجتمع، وظل يرسم مواقفه من الأحداث بخجل كما يفعل «التجريدي » المعاصر من نشطاء ومفكرين وكتاب بالاكتفاء بنقد الصف الأول من النخبة الحاكمة، فحالة العزوف عن الانخراط الحيوي في الفعل الاجتماعي من شأنه أن يورط الناس بشكل أعمق في طاحونة الاصطفاف السياسي على حساب «وطن » بفرقائه في المشهد من التقليديين من أهل التطرف الديني كالدواعش، أو فريق «الحق الإلهي » بسطوة الدين للسيطرة على وعي الناس وإدراك حقوقها، أو تلك الشريحة الانتهازية المتفاعلة مع ساسة المشهد لحفظ مصالحها في نظام مُفعم بالفساد.

حالة غياب الشارع عن إثبات حضوره مما يجري سياسياً في ليبيا من عبث بمصير البلاد كـ«وطن »، وبحقوق الناس في الأمن والاستقرار وبناء دولة محترمة طال أمد الوعد بها، ظاهرة تحتاج لوقفة جادة وعلمية تفككها لمعرفتها، وللوقوف على فهم خصائص الذات الليبية التى اندلعت في أوساطها 17 فبراير، بما يتجاوز الاعتقاد الرائج بان الليبيين بفبراير 2011 قد حققوا عنصراً وحيداً في حِراكهم، وهو كسر حاجز الخوف، وعازهم الحس الوطني والتوافق الاجتماعي وطبع السلم كوعى عام، مما سبب في تعرقل تحقيق نتائج إيجابية لانتفاضتهم* ضد القذافي لأجل بناء دولة الدستور والقانون، بغض النظر عن جدلية الدولة كمفهوم في تراثنا الإسلامي.

الدولة، كمفردة عربية، تاريخياً لا تعبر عن مفهوم لنظام سياسي ثابت، فكلمة دوَلَ تعني توالي الأدوار على الشيء، كقول معاوية «... هل تعرفون عرباً او عجماً أو سوداً او حمراً، إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد الا جعل الله ضده الأسفل... » (الطبري)، فالدولة هنا تعني التعرض للذل والاضطهاد، وكذلك ذات الحال في خطاب أبوالعباس السفاح حينما تولى بدحره آل أموية، فالدولة تعني دوره في الحكم بعد الانقلاب على الأمويين: «يا أهل الكوفة... حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا... فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير »، فالمفردة هنا تترسخ عبر ثقافة الغلبة والسيطرة بين الأقوام التي ظلت متنازعة حرباً على الأرض والماء والجاه، وكمثال شهير في هذا السياق قول أبوسفيان «ندال عليه ويَدال علينا »، بمعنى أننا نغلب هرقل مرة، ويغلبنا هو مرة، وكذلك القول المعرف في جملة «تداولنا الأمر » بمعنى نال الأمر نقاشاً وتمحيصاً بين الأطراف بحسب الأدوار في المناقشة. الدولة، كمفردة عربياً لا دلالة لها بنظام سياسي مستقر بالمعني الهيجلي، أو كما يتبادر للأذهان عند الحديث عن الدولة الفارسية أو البيزنطية. لقد استقرت دلالة مفردة الدولة، بالمعنى السياسي المعاصر مع بروز حركة النهضة، كما يري العديد من الأكاديميين**، الدولة في لسان العرب هي «اسم الشيء الذى يتداول، والدولة هي الفعل والانتقال من حال إلى حال ». إلا انه منذ عصر النهضة ظلت مفردة الدولة بعيدة عن مفهوم الثوابت المسيرة للسلطة كبعد عام، وأصبحت حتى اللحظة الراهنة، بشكل عام، تنصب على أدوات الحكم تماشياً مع الذهنية العربية الكلاسيكية بأن جوهر الاهتمام يكمن في السطوة على امتلاك الأمر. كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك »، لخير الدين التونسي، مثلاً، ظل يعرف الدولة بمعنى الجهاز التنظيمي الحاكم، وليس بمعنى الهيكل التنظيمي المؤسسي العام للناس على بقعة جغرافية محددة تسيرها حكومة.

يبدو أن الدولة بالمعنى المعاصر ما زالت في غياهب لا ندركها تماماً كذهنية ليبية عامة في الشارع، فهي أمام كل العزوف والسلبية والاعتزال السياسي للناس في تجمهراتهم الاحتفالية مرتبطة بتصور لحكومة ما زال الصراع على ترأسها تشكل حالة نزاع مفتوح بشكل مستمر، مما يعزز اعتزال البشر عن الخوض فيها، لأن كل النزاعات بصددها لم تحقق مكاسب حقيقية وراسخة للـ«رعية » على مدى عمر الصراع في ليبيا، رغم المرحلة الراهنة المعاشة اليوم بما فيها من ممارسات لساسة تقدم الرشاوى السياسية لبعض الأسر والطبقات الاجتماعية ولبعض الشرائح من طبقة الشباب العازم على الزواج أو لخوض غمار مشاريع اقتصادية بمنحهم قروضاً مصرفية مُيسرة، وغيرها من هذه المنح والعلاوات والهبات بقصد تسّكين الشارع وتخديره ورفع شعبيات لساسة ما زالت تأبى الرحيل.

لست هنا لنقد انتهاز الفرص للابتهاج والفرح في الميادين العامة، لكنها كانت محاولة متواضعة للتأمل في غياب الشارع الاعتزالي مما يجري بالبلاد، وسط فشل سياسي فاضح، ودعوة مفتوحة لاقتحام هذه الاعتزالية الشعبية من قبل الآخر.
هامش.

*خير الدين حسيب. الربيع العربي: نحو آلية تحليلية لأسباب النجاح والفشل. المستقبل العربي 2012.عدد398.
** محمد جابر الانصاري. التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الاسلام. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط 2. 1999