Atwasat

«إبليس ولا إدريس»

جمعة بوكليب الأربعاء 01 يونيو 2022, 02:31 مساء
جمعة بوكليب

رحم الله الملك الصالح إدريس المهدي السنوسي. في يوم 25 مايو 2022، مرّت الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاته. ولولا قيام البعض بالإشارة إليها على مواقع التواصل الاجتماعي ما كنتُ انتبهت لمرورها.

أنا من مواليد جيل الاستقلال. يوم ولدتُ، على يدي قابلة في السبيتار الكبير، بشارع الزاوية عام 1952، كانت ليبيا تحتفل بالذكرى الأولى لجلوس الملك إدريس على عرش الدولة الجديدة، المسماة المملكة الليبية المتحدة. ولم تكن تلك الدولة تملك من مقومات الحياة إلا النزر اليسير، ولم يكن لها ما يكفي من مداخيل وعوائد حتى لدفع أجور العاملين في دواوينها الجديدة. لكن رحمة الله لم تكن بعيدة منها. وجاءها الفرج المأمول بعد سنين قليلة، على شكل ثروة نفطية تفجّرت في صحرائها، فعمّ الخيرُ، وساد الاستقرار، وانتشرت الرفاهية، وذاق الليبيون طعم حياة مختلفة عما ألفوه في سابق أيامهم. وبدأت الطريق، إلى مستقبل زاهر ومشرق، مفتوحة أمام شبابها.

وأنا تلميذٌ بالمرحلة الابتدائية، علّمني زميل لي في المدرسة رسم صورة الملك الراحل. خطوط صغيرة على ورق أبيض بقلم رصاص، او على الجدران والأرصفة بقطعة فحم، أو بقطعة طباشير، تشكل إطاراً حدودياً لأبعاد الوجه. داخلها خطوط أصغر تضع الملامح المميزة: نظارةٌ على العينين، ولحيةٌ كثة. في إحدى المرّات، كنت مستغرقاً في استعراض موهبتي الجديدة في الرسم على رصيف في شارعنا بقطعة طباشير. توقف جارٌ لنا وأنا منهمك. وحين انتبهت لوجوده ابتسمت مفتخراً بموهبتي متوقعاً مديحاً. لكنه نهرني بلطف عن فعل ذلك، وأعلمني أنه لا يصحّ رسم وجه رجل شريف على رصيف متسخ يذرعه الناس بأحذيتهم طوال النهار.

وصف الملك المرحوم بالشريف كان مخالفا لما كنت أسمعه من اوصاف يرددها بالغون من حولي. حين كبرت، وأدركت الدنيا وما يدور من شؤونها، تبين لي أن جاري كان محقاً.
نعم، كان الملك المرحوم رجلاً شريفاً، وكان زاهداً في الدنيا، ويحبنا. وكنا نحن، أو أغلبنا، يتمنّون زوال نظامه والتخلص منه، ويرددون علناً مقولة "إبليس ولا إدريس."
وقتذاك، كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي على أشدها. وتزامنت معاركها مع مولد حركات التحرر الوطني من الاستعمار واشتداد زخمها وبريق قادتها. وانتشر القوميون العرب بشقيهم المصري والعراقي في مختلف المدن الليبية، ولم يكن للتيار الإسلامي زخم أو حضور شعبي مقارنة بالقوميين العرب. ولم يكن سهلا على الليبيين النجاة من تأثير ونفوذ ما كان يأتيهم محمولاً على الأثير من كل حدب وصوب، وبشكل خاص من القاهرة.
في الفاتح من سبتمبر 1969، حدث انقلاب عسكري، وحظي الليبيون بمن تمنّوا. وجاءهم، ذات ليلة خريفية معتمة، معتلياً دبابة. ومنذ تلك الليلة، ولمدة أربعين عاما قادمة، كان عليهم التعامل والعيش معه وتحمّل نزواته.

عقب مرور سنوات قليلة على وصول العسكر بقيادة زعيمهم، عرف الليبيون أنهم وقعوا في هاوية سحيقة من صنع أيديهم. وأن مأساتهم، في حقيقة الأمر، لا تختلف عن ماساة الدكتور فاوست بطل مسرحية " فاوست" للكاتب الألماني غوته، الذي كان يعيش راضياً مرضياً، فسلم نفسه للشيطان، بأن عقد معه اتفاقاً، مقابل حصوله على المعرفة المطلقة وملذات الدنيا، فمات شرّ ميتة.

لم يجد الليبيون أمامهم سوى عضّ الأصابع ندماً على ما أضاعوا. وعرفوا أن طريق العودة إلى ما فقدوا قد سُدت أمامهم، وليس عليهم سوى الصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولم يأتهم فرج إلا بعد 42 عاماً. لكن الأمن والأمان والاستقرار لم تكن، للأسف، ضمن محتويات جرابه.

رحم الله الملك إدريس السنوسي وطيّبَ ثراه، وجازاه عنّا كل خير. ملكٌ أحب ليبيا وأحسن إلى شعبها، وقاد حركة الجهاد ضد المستعمر، ووضع أساس دولة الاستقلال، لكنة لم يجد منّا إلا الجحود والنكران. سامحنا الله.