Atwasat

خليفة الفاخري.. شيء عن البدايات (نص مجهول)

سالم الكبتي الأربعاء 01 يونيو 2022, 10:43 صباحا
سالم الكبتي

أطل خليفة الفاخري كاتباً ليبيا له حضوره من خلال إبداعاته الشهيرة في صحيفة (الحقيقة) خلال منتصف الستينيات من القرن العشرين، وهذا الإبداع لدى الفاخري اتخذ أشكالاً عديدة، من كتابة المقالات، إلى كتابة القصة، إلى كتابة الحكاية الجميلة.. وكلها كانت تتم عبر سرد مشوق، وفكرة واضحة، وبأقل عدد ممكن من الكلمات على طريقة (همنغواى) الذي تأثر به كثيراً، مثل تأثره بالمتنبي والبياتي في مرحلة لاحقة.

كان الفاخري يحمل موهبة كبيرة، وكان – في بداياته – يتلمس الطريق لإفراغ شحنة هذه الموهبة المتدفقة لمواصلة الاستعداد المطلوب واستخدام الأدوات والثقافة والتجربة وقد حاول نظم الشعر، استهوته دواوين الشعراء الرواد وحفظ قصائدهم، والمتتبع لرسائله وكتاباته (القديمة) التي تشكل أساس بداياته، وهي مهمة للغاية في دراسة وتحليل نتاجه اللاحق يكتشف (غرامه) بالشعر.. بالقصائد المتوهجة حروفها مثل النار، ويرى أنه على الدوام (يطرز) تلك الكتابات بشواهد حية من الشعر، وفي جلساته مع أصدقائه تسمعه يردد الكثير من أبيات الشعر، كان يحب الشعر الأصيل ويتذوقه تماماً، وعلى هذا حاول أن يكتب القصيدة.

البداية تعود إلى سنة 1960 فقد حدث زلزال مدينة أغادير المغربية في إحدى ليالي رمضان – تحديداً 1مارس 1960- وشعوراً منه بآلام المصابين وحسبما تواردته الأنباء التي تناقلتها الإذاعات والصحف.. حاول الإفصاح عن ذلك مصوراً فجيعة الزلزال وما أحدثه من انكسار في قلبه فكتب (مأساة أغادير) من حوالي واحد وعشرين بيتاً، جاءت متعثرة وضعيفة فنياً، غير أنها جسدت الارتباط بمعاناة الآخرين والشعور بأحزانهم، ولم ينشرها.. لكنه رقنها على الآلة الكاتبة – وكان فناناً في ذلك – ووزعها في استحياء على بعض من أصدقائه في بنغازي!

تلك كانت المحاولة الأولى، ثم كانت الثانية وهي عمودية أيضاً في مطلع سنة 1962 في رثاءً شاعر الوطن (أحمد رفيق المهدوي) بعنوان (دمعة ذكرى) ولم ينشرها أيضاً.. ورغم التعثر الفني كانت أجود من قصيدته عن أغادير، وقد وردت في أربعة وثلاثين بيتاً.

وبعد ذلك جازف بنشر شعره، فنشر قصيدة غزلية – من الشعر الحر – أواخر سنة 1963 في صحيفة (الرقيب) ثم (قطرة ضوء) وهي مقطوعة شعرية جميلة فيها معاناة وصدق كبيران كتبها مطلع سنة 1964 وهي من أوائل ما نشر في صحيفة (الحقيقة) سنة 196. يقول فيها:
(ليس فى القنديل زيت
ليس فيه أي قطره
وأنا من عمق (ليت)
أرتجى دفئا.. وبيت
أتملى أي نظره
من صديق
تتمادى بوح زفره

كالحريق!
أي فكره
أي كسره
من رغيف
تسحق جوع الخريف
فى قلوب سائمات
لم تذق طعم الحفيف
فى غصون من مسره
فتحرك يارفيق
وانطلق فى العمر مره
كى نريق ..
دمنا فوق الطريق..
لنرى فى الليل ثغره..)

لكنه لم يتواصل – كتابةً ونظماً مع الشعر – وإنما استفاد في تكوينه من هذا المخزون الثقافي والقراءات المتعددة والحفظ الكبير لعديد من القصائد، فشرع في كتابة مقالاته وقصصه بدم القلب وبروح الشعر وبحماس الفنان، وهي في مجملها كتابات على تنوعها يحيا فيها الإنسان ولا يموت، وظلت كلمته تخدم فكرته وتلتزم (موقفاً أخلاقياً) باتصال، كان الفاخري في إبداعه مخلصاً للحرف الشريف، وحياته – فناناً وإنساناً – تعطي مثالاً لكبرياء المبدع النظيف، الذي احترم قدسية الكلمة وتماهى معها إلى درجة العشق..

وربما لامست حافة الجنون، فكان مبدعاً مسكوناً بالنار – مثل كل المبدعين الحقيقيين – وكان إبداعه صورة حية للخلق الفني النبيل في زمن قبيح يشهد فيه إنسان هذا العالم – أينما وجد- كل ما يغتال روحه ويدمرها، وباختصار فإن موضوع خليفة الفاخري وهمه ظلا ترجمة لذاته الممتلئة حباً للحياة المشرقة.. للآخرين، وضد الشرور بكل أنواعها الرديئة.

وهذا جزء من نص فريد لم ينشر من قبل، لبداية من بدايات الفاخري المجهولة الذي نجا من التورط في الاندفاع في النشر وكان متمهلاً في ذلك إلى حد كبير، لقد ظل – فترة طويلة – يكتشف الدروب .. ويكتب لنفسه ثم لأصدقائه، ومن خلال الرسائل التي كانت أحد جسوره للانطلاق في أجواء بعيدة، وهي مقتطفات من رسالة طويلة كتبها إلى صديقته أوائل سنة 1962، تبين عن موهبته تلك الفترة.. وتأثره ببعض القراءات التي كونت رصيده الثقافي والفكري، ورغم – بساطتها – فهي تشير إلى صدق الفاخري في بحثه عن الكلمات وتعامله معها، وتفيد – إلى حد ما – في تطور ثقافته وأسلوبه والشكل الفني الذي عرف عن إبداعه.
كانت البدايات بسيطة مثل الأدباء الكبار.. لكنها صادقة، ومن خلالها أطل وبرز مبدع في ليبيا اسمه (خليفة الفاخري).. واستمر !

(النص)
عـزيـزتـي:

تحية مطلقة كالشعاع.. إليك يسطرها اليراع.. على أوراق كأنها شراع، ها أنذا أكتب إليك، هأنذا أزف إليك رسالتي كوردة في يديك عبر الروابي، عبر الشعاب، على بعد توافيك، أزفها كعروس، عرسها أوتار في سطور، أنغامها معانٍ من شعور بالود والتحنان تلاقيك، بهما من عمق فؤادي عبر همي واعتقادي – رسالتي – تحييك.

(إن النور ظل الإله)..
كذلك قال صديقي، وهو ينظر إلى الضياء المنطلق كأحلام الأماني.. بينما كان ينتقل بين الأعشاب الخضراء المتمايلة بفعل النسيم الذي يسري في تؤدة ولين، وكانت الشمس ترسل أشعتها الدافئة.. فتتخلل الأغصان المتعانقة والمترنحة بلحن عذب رقيق، وإذ يتسلل النسيم فينساب بين أوراق هاتيك الأغصان الكثيفة كما تنساب الخمر في خلايا الإنسان، عند ذلك تسمعين الأوراق تزغرد في بهجة وتصفق في استبشار وفرحة..

وعلى أثر تصفيقها ذاك تتساقط منها حبات الطل اللؤلؤية فتنعكس عليها أشعة الشمس الصباحية وهي هاوية، فترين لها بريقاً حاداً ولمعاناً رائعاً وقوياً، ثم تضمها الأعشاب في حناياها، وبالتالي تتوارى فيها وتغني، وأضاف صديقي : (إنها غابةٌ رائعة).

كان اليوم يوم الجمعة.. وكنت قد عقدت العزم قبل ذلك مع صديق لي يدعى (خليفة) على أن نقوم برحلة في هذا اليوم إلى (غابة القوارشة) على الدراجات، وهي تبعد عن بنغازي بمسافة سبعة كيلو مترات تقريباً، غير أنه في اللحظة الأخيرة من يوم الخميس انضم إلينا صديق آخر يدعى (مفتاح)، وفي الصباح الباكر من يوم الجمعة هيأنا كل اللوازم وانطلقنا، وبعد خمس وأربعين دقيقة وصلنا الغابة، وهي تقع على كتف الطريق العام..

وثمة سياج يضرب حولها نطاقاً واسعاً.. وعند الوسط، وعند صدر الغابة ينفصل السياج عن بعضه مشكلاً مدخلاً ينطلق منه ممر معشوشب طويل يشق الغابة قسمين حتى يصل إلى نهايتها حيث السياج يمتد معانقاً الغابة بساعديه، وعبر السياج تستلقي طريق واسعة مكسوة بالأعشاب هي الأخرى، وفي وسطها تقع قضبان السكة الحديدية حيث يمر القطار، وعندما أقف بين الخطين الحديديين يخيل إليّ أنهما يحاولان الاقتراب من بعضهما، وكلما انحنى أحدهما عند منعطفٍ ما.. ينحني الآخر في نفس الاتجاه؛ وهكذا.. لا يلتقيان أبد الزمن.. وبعد هذا الطريق الواسع المعشوشب، يقوم سياج آخر مقابل للسياج الأول.. وخلفه تكون غابة أخرى مماثلة خضراء كالربيع.. كبيرة كالحياة.

ونعود إلى مدخل الغابة الأولى:
مررنا باللسان المنطلق من فم المدخل كأنه ثعبان مرقط، كان طريقاً مخضوضراً تقع على جانبيه الأشجار الباسقة، وبين الحين والآخر، عندما يهب النسيم كالخيال الساري في دجى الليل.. عند ذلك تتمايل أغصان الأشجار في كلا الجانبين بدلال وتيه، وتتصافح في حنوّ ورفق ودعابة، كان منظر الطريق كعين إنسان حالمة تنظر إلى هياكل خيالات وأوهام، وبين لحظة وأخرى تلتقي الأهداب كأنها تعانق هاتيك الهياكل، وكانت الطيور تتناغى وتغرد، كانت قد اتخذت من الكون قيثاراً مترنماً رائعاً وتصدح بأنشودة الحياة على أسماعنا.

كانت تغرد في ابتهاج ومرح، كان غناؤها كمسرى التفاؤل إلى القلب الكئيب، كان صوت تغريدها يصل إلى أسماعنا نقياً صافياً، كدمعة إيمان وتوبة، وكانت تنتقل بين الأغصان في خفة مستقبلة يوماً جديداً في الحياة، وهي تحرص على ألا يمر عليها ذلك اليوم دون أن تبتهج فيه وتـفـرح، وكذلك كنا نحـس الشـعـور ذاتـه في تلك اللحـظات، وقـال مفـتـاح وهـو ينـظـر إلى الطـيور: (يا له من استقبال رائع) وفي أثناء ذلك قلت كمن يطرح عبئاً عن كاهله: (إن الإنسان ينسى كل متاعبه بمجرد أن يخرج من المدينة، خاصةً عندما يأتي إلى مثل هذا المكان).

كذلك أضاف خليفة وهو مستلقٍ ينظر إلى الورود البيضاء بجانبه من وراء منظاره الأسود، وبعد فترة قال مفتاح ناظراً إلى ساعته: (إن الوقت يمر بسرعة)، فرد خليفة: (الأوقات السعيدة قصيرة العمر).

كانت الشمس ترسل أشعة صفراء برتقالية، ثم تحولت إلى حمراء قانية، وبين الأغصان ينساب الأصيل مشكلاً دوائر حمراء فوق الورود التي تقبل الأعشاب بين الحين والآخر، كان الأفق أحمر مخضباً بدماء النهار الذبيح، كانت الطيور ترسل جلبة صاخبة كأنها تؤوب إلى أعشاشها، وبالتالي قمنا كي نحزم أمتعتنا، فكان كل منا يشعر في أعماقه بكآبة تسري في شغاف نفسه لمفارقة هذا المكان، كنا نتجنب التحدث إلى بعض، فكان الغروب الذاوي والصمت المطبق يغلفاننا.

عـزيـزتـي.. بينما أكتب إليك.. بينما أزف رسالتي كوردة في يديك، وقبل أن تطوي البقاع بجناح أشواق جياع، لكي توافيك.. عن قبلات النور أنبيك.. عن خيوط أضواء البشائر، عن هتاف مزق تلك الحناجر، عن بطولات الجزائر، سوف أنبيك.

كانت ثمة سفينة تشق عباب البحر، وكانت مياه البحر عند مقدمتها كأنها جناحان من الأمل، وكانت الأعاصير والرياح تجتاح ذلك البحر، وعلى ظهر السفينة كان ينتصب شراع أبيض ناصع، وكانت الأمواج الثائرة قد بللت ذاك الشراع ببقع من مياه البحر الهائج.. ولكنها كانت بقعاً حمراء.. كالدم! غير أن الشراع أخذ يصطفق في عربدة من فعل تلك الرياح ويزمجر في غضب، كأنه ينتقم لأدوات السفينة التي حطمتها تلك الأمواج والرياح.

كانت السفينة تصارع الأنواء وتكافح الأعاصير في جبروت وعناء، كانت تؤمن في أعماق ذاتها بأن لكل بحر شاطئاً.. شاطئاً تكسوه الرمال الصفراء اللامعة كأنها سبائك من الذهب، وعلى تلك الرمال تمتد أشجار الزيتون الخضراء مستسلمة لمغازلة نسيم الحياة، وبين أغصانها انتشرت أعشاش وارفة مطمئنة تتردد عليها حمامات وديعة ناصعة البياض، وكان الشراع يعلم أن لونه كان كهذه الحائم، بيد أن الأمواج قد لطخته ببقع حمراء!

كانت السفينة تحلم بالوصول إلى ذلك الشاطئ، فهي تجالد وتكابد الأهوال في سبيل ذلك، وأخيراً تحطمت الأمواج على جانبي السفينة فشقت طريقها في سلامة ويسر حتى وصلت الشاطئ، وهناك صفق الحمام بأجنحته البيضاء في وداعة وحب، ورقصت أغصان الزيتون في فرحة وبهجة.

عـزيـزتـي.. لقد تحررت الجزائر.. من الصعـب أن يصف الإنسان مدى وكيفية تأثير خـبر كهـذا.. من الصعـب أن يصف مشـاعره، لقـد كـلل الصمـود بالنجـاح، كان لاعتقال (الأحرار الخمسة) أثره السيء في نفس كل مواطن في مدينتي.. في بلادي كلها، كان لاعتقال (جميلة) وتعذيبها وقع دامع، لقد كنا نناصر الجزائر بمشاعرنا وأحاسيسنا.. بروحنا وقلبنا.. بدمنا ودموعنا، ولا عجب أن نبتهج الآن بذلك.
استلمت رسالتك الأخيرة، وها هي رسالتي تصلك عن رحلة مع أصدقائي، وعن فرحتي باستقلال الجزائر.. وفرحة بلادي كلها، وتحية مطلقة كالشعاع إليك سطرها اليراع، على أوراق كأنها شراع!

5 إبريل 1962