Atwasat

المشروع المفقود

رافد علي الخميس 26 مايو 2022, 01:27 مساء
رافد علي

غياب مشروع وطني حر ومستقل في ليبيا حتى اليوم، رغم كل السقوط والتردي، قد بات يرسخ الاعتقاد السائد عند العديد من أهل الفكر العربي المعاصر بأننا نعاني "أنيميا سياسية". انعدام الشفافية وسيطرة الشعارات هي الواقعية السائدة، في حين تتجلى في الشارع الليبي واقعية أخرى مستسلمة لحالة البؤس السياسي بالبلاد بما يسوده من فساد وخراب وانفصام في الخطاب عن الواقع.

استقالة بعض أعضاء مبادرة "رد الأمانة للشعب" ، التي أطلقها السيد عبد الحميد الدبيبة يشير بيانها، بلا مخاتلات، إلى أن المستقالين قد لمسوا "عدم جدية" الدبيبة في العمل لرد الأمانة للناس، رغم كل توظيفه السياسي للانتخابات، كعملية سياسية، تمنحه شرعية البقاء في السلطة. وبعيداً عن التسييس للاستقالة المذكورة، لا يبدو على الأرض أن حكومة الوحدة الوطنية قد قطعت خطوات حقيقية لأجل إجراء انتخابات "في أقرب فرصة"، لترفع عن كاهلها أثقال "أمانة" ثقيلة ومعقدة وتاريخية، رغم مبادرة الجزائر، المعلنة منذ أسابيع، لاستعدادها لإجراء الانتخابات. على الجانب الآخر، وبعيداً عن التسييس أيضاً، يقف السيد باشاغا، الرافع لشعار أنه مكلف برلمانياً بحكومة مؤقتة موازية لإجراء ذات الانتخابات، لم يتوان ذات لحظة عن خوض مغامرة سياسية مُعَسْكرة للدخول فى حالة حرب فى عاصمة يعرف جيداً أنها مدينة "مُعسكرة"، وتعيش توازن الرعب!. لكنه يظل، كسياسي، على رأس حكومة أُنزلت للمشهد الليبي بشكل عاجل ومربك- وهى قضية خاضعة للتحليل والتأويل- يظل يقدم للعالم وللناس وعودا بمشاريع اقتصادية ضخمة، رغم أن حكومته في نهاية المطاف "حكومة مؤقتة"، ليس من المنطق أبداً أن تتحدث عن مشاريع لها "تجعل من الصحراء جنة" . إجمالية المشهد الليبي بقبحه وفجائعه، تجعلنا- ليبياً على الأقل- أمام حقيقة أن الواقع الليبي سياسياً لم يخرج من حالة الانفصام السياسي العربي عموماً، والمتجلي في رسم صورة للفردوس الأرضي ضمن خطاب لواقع مضطرب وقلق وفاشل بسبب جمود سياسي مقصود، ومتأزم على عجل وباستمرار، لأن الخصومة السياسية فيه مفتوحة على انسداد دائم، فأغلب التوافقات السياسية تظل ثانوية، والتنازلات الحقيقية لازالت "خارج نطاق الخدمة" عند أرباب الحال المتعقد حتى الآن.
لازال المشروع الوطني الحر والمستقل في ليبيا يثبت غيابه، رغم ما يزيد عن عشرية مفلسة ومرعبة، ولعل مرد هذا الغياب يأتي ضمن حالة العوز العربي العام على اقتحام معرفي لواقعنا، فمعظم ما يجري على الأرض من لقاءات وحوارات وإشهارات سياسية يكاد يكون ضمن حالة التسييس المنكب بشدة على الخصومة على السلطة والصراع فيها بالبلاد. فمواردنا الهائلة لازالت عازفة على لم شملنا ضمن برنامج يكفل تحريك الأشياء في واقع اللا معنى لثورة مجهضة، وواقعية مفلسة سياسياً، وهياكل اجتماعية لازالت بعيدة عن حقيقة التاريخ وأحكام الجغرافيا ومفاهيم العصر. فكلما اتسعت الفجوة الانفصامية بين خدر الوعي وبؤس الواقع، كلما تمترست الشعارات المثالية فى كماشة المربع الأول للأزمة، لا سياسياً وحسب، ولكن على مستوى الاستمرار بالعيش في غيبوبة الشارع ونخبته التي لاتزال تصف نفسها بـ "الأغلبية الصامتة"، رغم انعدام أي ملامح أخرى واضحة لهذا الصمت الغالب في بلد يتلاشى!.
فَشَلُنا في ليبيا في العبور لبر الأمان حتى اللحظة، تاريخياً، يُعد حلقة جديدة من حلقات العطب السياسي العربي، لأن الخلل ظل موجوداً في الهيكل الأساس حتى لحظتنا المرتبكة بنا كعرب بكل راهِنيتها ورهاناتها المعاصرة. الإسلام عندما كان قوة عظمى، ظل التأزم السياسي يُعد نقطة ضعف داخلية في دويلاته التي عرفناها، وهي ذات الإعاقة التى نواجها اليوم، لأنها إعاقات تهدد طاقتنا في الصميم بحسب رأي محمد الأنصاري عند حديثه عن "الظاهرة العربية" التي تَفتِك بنفسها، بعيداً عن معتقدات التآمر الإمبريالي ونظرية المؤامرة، لأن روح العزوف وعدم تقديرنا لأدوارنا وكذلك الخوف المبالغ فيه هي من أسباب انحطاطنا سياسياً وسقوطنا حضارياً.

لا شك في أن مساءلة الهزيمة العربية أمام إسرائيل بالقرن الماضي قد عززت نمط الأنظمة الشمولية عربياً، وزادت من حالة التخلف السياسي العربي الذي ظل شيئاً راسخاً تاريخياً، وأضحى واقعنا السوسيولوجى العربي الآن معبراً عنه، فحتى حركة الإصلاح بمنطقتنا كانت تتحاشى التعاطي مع قضية التخلف السياسي، وركزت على التعاطي مع قضايا التخلف العلمي والتقني وغيرها من أنواع التخلف، فقضية الخوف والتحاشي من خصائص واقعنا الاستبدادي كثقافة ابوية لازالت تقضي شهر عسلها مع اقتصاد ريعي.

لقد طال غياب مشروع وطني حر ومستقل بليبيا، ولابد من الوقوف على هذه القضية، لأنها من ضمن مفاتيح خلاصنا الحقيقي لا المرحلي فقط. فالتحديق بعيون مفتوحة – وليس التفنيص-، وبفكر مفتوح – وليس المستعار- فى الأداء السياسي المفلس حتى هذه اللحظة بات أمراً حضارياً مُلحاً. فإلى متى الغياب؟