Atwasat

حكايتان

جمعة بوكليب الأربعاء 25 مايو 2022, 09:36 صباحا
جمعة بوكليب

تقولُ الحكايةُ الأولى إن محامياً فرنسياً، في زمن الاحتلال النازي لفرنسا، اُعتُقلَ في باريس من قبل جنود الاحتلال الألماني، من دون جريرة.

ذات يوم، بعد أن تناول وجبة طعام في مطعم قريب من مكتبه، وخرج إلى الشارع، قدمتْ شاحنة بها جنود ألمان، واعتقلوه مع من وجدوه من رجال في الشارع. كان الضابط الألماني، رئيس المجموعة، يريد اعتقال عشرة رجال فرنسيين. وقبض جنوده على تسعة منهم، ووضعوهم في الشاحنة.

وأصرّ الضابط على اعتقال آخر. فوقع ذلك المحامي، لسوء حظه، بين أيديهم. وكان اسمه المسيو شافيل. وسيق مع غيره إلى سجن، في قلعة قديمة. وكلما حاول التحدث مع الجنود وإعلامهم بارتكابهم خطأ فادحا، وأنّه يعمل محامياً، لم يجد آذانا صاغية منهم.

 ورموه في زنزانة كبيرة مع 29 معتقلا آخر. وبعد ساعات من وجوده في الزنزانة، جاءهم أحد ضباط السجن، وأبلغهم أن ضابطاً ألمانياً كبير الرتبة قد تعرض للقتل من قبل رجال المقاومة الفرنسية.

وأن العادة جرت على قتل رجل واحد من كل عشرة رجال في المعتقل. وأنّه خلافاً للعادة المتبعة في اختيار المعتقلين عشوائياً، الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام، فقد تقرر هذه المرّة أن يختار المعتقلون من بينهم ثلاثة أشخاص، لينفذ فيهم حكم الإعدام رمياً بالرصاص غداً صباحاً عند الساعة السابعة.

عقب مغادرة الضابط للزنزانة، ساد صمت غريب بين المعتقلين لفترة من الوقت. ثم فاقوا من الصدمة، وبدأ بينهم نقاش للخروج من المأزق، باختيار الضحايا، سواء بالتطوع أو بالقرعة. واستقر الرأي بينهم على إجراء قرعة.

27 منهم كانوا من المحظوظين، و3 آخرون، من بينهم المسيو شافيل، كان عليهم مواجهة فرقة الإعدام الألمانية في صباح اليوم التالي. المسيو شافيل كاد يجن، وأصيب بهستيريا غريبة، وصار ينطق كلاماً لا يستقيم والعقل الصحيح. وخلاله أبدى استعداداً بالتنازل عن بيته، وكل ما يملك من ثروة، لمن يقبل من المعتقلين أن يحلَّ محله. وكانت معظم الردود ساخرة من العرض.

إذ ماذا سيفعل أيٌ منهم بأموال لن يستمتع بها؟ لكن واحداً منهم، وكان شاباً، قبلَ العرض. وكتب المحامي تنازلاً بخط يده على ممتلكاته باسم أم الشاب وشقيقته. وذيّل التنازل بتوقيعه.

وصدّق على ذلك شاهدان. في صباح اليوم التالي، تم تنفيذ حكم الإعدام في الأشخاص الثلاثة.

تلك الميتة المؤلمة لشاب فقير قال في الليلة السابقة إنه يريد أن يموت غنياً، ليس نهاية الحكاية، بل بداية أخرى لها، توثق مسار رحلة ومحنة المسيو شافيل، على كافة المستويات، عقب خروجه من السجن، وما آل إليه من سوء مصير.

الحكاية الثانية تقول إن شاعراً موهوباً ومعروفاً في بداية حياته، وصل إلى عاصمة بلاده للدراسة قادماً من ضاحية جبلية بعيدة، قرب الحدود. وكان يتمنّى السفر إلى باريس، كما كان يفعل شعراء ومثقفو بلاده في تلك الحقبة الزمنية.

ولتلك الغاية، تعرّف على صديق قدّمه بدوره إلى رجل يعمل مديراً للشؤون القنصلية بوزارة الخارجية، ومن ضمن مهامه الإشراف على إيفاد العاملين في قنصليات بلاده في مختلف عواصم العالم. عرف الرجلُ شاعرنا الشاب، وأحسن استقباله. وفي نهاية المقابلة قال له اعتبر نفسك موفداً. ظل شاعرنا الشاب يتردد على ذلك الرجل كل أسبوع تقريباً، بأمل استلام رسالة الإيفاد الرسمية.

وخلال كل زيارة كان يعود منها محمّلا بنفس الوعد. استمر الحال على ذلك المنوال لمدة سنتين كاملتين، حتى أصاب اليأس الشاعر الشاب. وذات يوم، بينما كان يجلس مع صديق من أسرة معروفة، سأله الصديق عن أمر الإيفاد. فحكى له الشاب القصة كاملة.

استاء الصديق مما حدث للشاعر، وعرض عليه مقابلة وزير الخارجية. وضرب له موعداً للقاء في اليوم التالي. وبالفعل، وجد شاعرنا نفسه جالسا في مكتب الوزير ذاته. وعرف الوزير الشاعر الشاب من خلال أشعاره المشهورة، وأحسنَ استقباله، وسأل عن سبب الزيارة. فحكى له صديق الشاعر الحكاية، وطلب منه إيفاد الشاعر للعمل بإحدى القنصليات بالخارج.

استجاب الوزير فورياً للطلب، ورفع سماعة الهاتف وطلب حضور مدير إدارة الشؤون القنصلية، وهو نفس الشخص الذي ظل يتردد عليه الشاعر لمدة عامين كاملين.

وحين حضر سأله الوزير عن الأماكن الشاغرة في القنصليات في الخارج، فسمى له عدة بلدان. حين انتهى طلب الوزير من الشاعر الشاب أن يختار العاصمة التي يحب أن يوفد إليها من القائمة الشاغرة.

فارتبك الشاب، ومن شدة ارتباكه نسي أسماء العواصم، التي ذكرها مدير الشؤون القنصلية أمامه، ولم يتذكر منها سوى اسم واحد وهو "رانغون." فطلب أن يعين في رانغون. وتحقق له ما أراد.

الغريب أنه لم يسمع بها من قبل، ولم يكن يعرف أين تقع. وحين خرج من مكتب الوزير وذهب إلى أصحابه ليبشرهم بالخبر المفرح، سألوه عن العاصمة التي سيوفد إليها فنسى الاسم.

الحكاية الأولى مختصر لحبكة رواية مشهورة اسمها "الرجل العاشر- The Tenth Man" كتبها روائي بريطاني اسمه جراهام جرين.

أما الحكاية الثانية فقد قرأتها موثقة في "المذكرات الكاملة " لشاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا، الصادرة عام 1974عن دار نشر أمريكية.