Atwasat

حين يرحل البسطاء

سالم الكبتي الأربعاء 25 مايو 2022, 09:32 صباحا
سالم الكبتي

(فقراء ياقمري نموت
وقطارنا أبدا يفوت)
عبدالوهاب البياتي

حين يرحلون.. يتركون جفافا قاحلا في الضفاف. وفراغا موحشا في النفوس. والكثير من الحزن. لكنهم يظلون كبارا رغم تلك البساطة المتناهية التي تفعم حياتهم.

إنهم شيء جميل وعظيم في هذه الحياة. المودة والبهجة والنبل.. الشهامة والمروءة.. القلوب الكبيرة وروعة الصداقة التي تنسج خيوطها بينهم ومع الآخرين. ولقد ظل هؤلاء يمثلون مثلا حلوا في حياة تسودها المصالح والأنانية والغرور.

كما شكلوا مادة غزيرة ورائعة للمبدعين والفنانين. البسطاء جواهر لاتعوض حين ترحل وتفقدها حياتنا الرتيبة. البسطاء ملح هذه الحياة. يتعاملون بعفوية.

يتحدثون بصدق. تنثال ذكرياتهم بلا توقف. ينصحونك نصائح ثمينة. يمتلكون تجارب واسعة. إنهم شيء آخر. وحين يرحل أحدهم تشعر بالفقد الحقيقي وتظل وحدك من دونهم.

رحل الصديق سالم حمد الترهوني (القط). قطعة من المدينة وشوارعها وأزقتها ودروبها وأصدقائها وأسمار ليالها. غادر ببساطة مثلما عاش ببساطة ولكن في كبرياء. غادر الحياة بمودة ومحبة للجميع دون أن ينال الحقد قلبه أو تتمكن الكراهية من تفكيره.

سالم القط شيء آخر. كان ضمن حزمة من الأصدقاء في المدينة يملؤونها إنسانية ولطفا. وكان قريبا من الصديقين الصادق النيهوم وخليفة الفاخري ومع غيره من البسطاء شكل، كما قلت، ذخيرة لإبداعهم وفنهم في كثير من المرات. كان سالم في سنوات الستينيات سائقا ماهرا لإحدى سيارات الأجرة في المدينة.

رحل بها عبر دروبها الصغيرة وكانت بنغازي تتسع له ولسيارته وللجميع دون أن تضيق. يومها كان التعامل يرافقه الصدق والأخلاق ولا تشوبه الخيانة أو بريق الملاليم. وكذا قطع بهذه السيارة الشهيرة المسافات إلى القاهرة وطرابلس وكل الأماكن.

ومن سافر معه من العائلات أوالأفراد شعر بقيمة الأنس والمحبة مع رجل فريد وجميل اسمه سالم الترهوني. كان الصادق النيهوم أثناء دراسته يستعير السيارة منه ويظل يجوب بها الشارع الذي تتوسطه الجامعة.

وكان عبرها يغازل إحداهن من زميلاته الطالبات تلك الأيام. التاكسي شهد على ذكريات كثيرة. وعندما حضر النيهوم وقام بإجراء توثيق عقد زواجه من السيدة الفنلندية في بنغازي تولى سالم نقلهما بكل فرح وبهجة في تلك السيارة (الشيفورليت) إلى القاهرة حيث كان في بداية دراسته في القاهرة التي لم تتم بعد تركه لألمانيا المرعبة كما يصفها لأصدقائه البسطاء.

الذين كانوا أوسع وأشمل في رحاب صداقة النيهوم الفنان والمثقف أكثر من صحبته وصداقته لآخرين يماثلونه أو يبزهم في الثقافة والمعرفة. في ألمانيا ثم في هلسنكي منذ خطواته الأولى في الغربة لم ينقطع النيهوم عن حمل هؤلاء الأصدقاء في قلبه مثلما جعل بنغازي في أعماقه.

يستل ذكرياته معهم ويحلق بها في أجواء غربته المتعبة.. سوق الحشيش وجليانة ومطار قاريونس والجامعة والمقاهي وسي سليم العربي والرحلات إلى القوارشة وسيدي مرعي ولحظات الفرح الدائمة.

يقول النيهوم.. لسالم من هناك.. من ألمانيا عام 1963:(أخي سالم. أنا حي.. بارد.. متكبر.. عميق قديم مثل الألب نفسه فقل أنك كذلك). ثم أرسل له بصورة وسط الثلوج في ألمانيا كتب خلفها: (أخي سالم صورة أخرى فيها حزن أقل وقوة أكثر إنني أستعيد نفسي من جديد.

الثلج يملأ الدنيا والحزن كذلك ولكنني سوف أظل بخير).

وكلمات ورسائل عديدة بينهما. وحين شرعت بعد رحيل النيهوم في تجميع كتبي عنه كان من مصادري الرائعة والمهمة سالم القط.

الصديق الذي لم يبخل بما لديه من معلومات وصور ورسائل. وحين أهديت كتابي رسائل النيهوم نوارس الشوق والغربة الصادر عن دار الانتشار العربي عام.. 2002 أهديته إلى كل أصدقاء النيهوم ومن بينهم سالم الرائع الذي شمله الإهداء. كان حديثه شائقا ويتدفق في الحكايا والرواية الصادقة عن النيهوم. الرواية العفوية البعيدة عن تزويقات وشكليات المحترفين من الأدباء وكتاب السيرة والمؤرخين.

في مرحلة لاحقة جرب سالم أعمالا فنية عديدة أخرى تتعلق بالميكانيكا وتغيير زيوت السيارات وامتلك سيارة رافعة للإنقاذ. كان يشتغل من عرق جبينه خدمة لأبنائه وعائلته. لم يقترب من أية جهة حكومية أو عامة. تفرد بنفسه بكل كبرياء الإنسان المكافح.

وكنت أراه باستمرار عندما كان ينتظر بسيارته الرافعة في بعض ميادين المدينة يمسك بكتاب جميل ويقرأه بإمعان واهتمام. هؤلاء البسطاء دائما يأسروننا ويدخلون إلى شغاف قلوبنا بلا استئذان.

تذكرت صديقي سالم ساعة رحيله. تراب بنغازي إحتضنه قريبا من قبر النيهوم في المقبرة المجاورة. جسر من المودة تداعى. وجسر آخر من الأحزان والفقد شرع في القلب مؤلما ومرا. البساطة ترحل ببساطة وتترك حزنا لانهاية له.

وداعا يا أخي سالم. وليرحمك الله العادل الكبير.