Atwasat

مقاهي أصحاب الصوب!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 24 مايو 2022, 10:42 صباحا
أحمد الفيتوري

أجلس حاليا، على مقاعد مقاهي القاهرة، لكن أعيش على مقاعد مقاهي بنغازي، حيث كنت أقضي جلّ الوقت الثمين، فالمقاهي مرتع الحياة بعد البيت، وكأن المقهى سقيفة النهار، والبيت دار الليل غرفة النوم. ولا أجد غضاضة، أن أجلس وحيدا في المقهي، كما لا أجد غضاضة، أن أجلس وحيدا في البيت، خاصة في مكتبي حيث يجب أن أفعل ذلك، فالقراءة كما الكتابة، تجبّ أن تكون لها ضرة.

المقهي في بنغازي أو القاهرة كما مستراح، وكذا كما لمة، لكن إن لم يكن مقاعد الأصحاب، فإنه ليس مقعد الوحدة، وذا ما يجعله ضرورة كما البيت، فيبدو كما سقيفة البيت، وأنه مبدد الوحدة، ممكن لأنه عادة عامر بالبشر، وأنه معمار الاجتماع خاصة في العصر الحديث، حيث بات ملتقى الأصحاب الأحباب، الرفاق الزملاء، وملتقي العشاق.

المقهي في حياتي عامر كما في مسروداتي، كتبت عن مقاه تعنيني كثيرا، خاصة في مدينتي بنغازي، حيث كان المقهى منذ أول العمر مقاعد أصحاب الصوب. وهكذا وجدتني قد كتبت عن تلك المقاهي التي ترددت عليها، وكان لي فيها معاش.

بعد ميدان الشجرة أنحرف ، مبتغاي يجرني من أنفي، مقهى المنتدى الإذاعي، يكون اليوم فارق نصفه الآخر، وأكون تزوجت التعب وتجاوزتني المتعة.

هكذا كل يوم ، في المنتدى أحتسي دون شهية كوب مكياتا دون سكر، كأني أصبغ المرارة، كما يصبغ التقي الوضوء. دائرة نقاش اليوم وكل يوم، محاورة بكماء مستهلها كلام يجتر الكلام، عن الكساد والتعب والفقدان، توجع وبكاء أبكم وشكوى، في أيقونات مستعادة حتى الكلل.

طارق الشرع ناقد، خليفة فرج كاتب الأغنية وشيطان الضحك منا علينا، محمد الصادق مخرج وممثل مسرحي، أحمد بروين مخرج تلفزيوني، وكذا محمود الزردومي، ومثلهما المشاغب عادل الفيتوري، والمصور أحمد العريبي، عادل جربوع ومحمود الحاسي - أحيانا- تشكيليان، علي الفلاح كاتب مسرح، مفتاح بوزيد وله أكثر من اسم هاو السينما، أحيانا كثيرة حسن بوسيف، الذي يأتي كثيرا إلى بنغازي من درنة، لأجل الدراسة ، قاص، كذلك صالح قادربوه شاعر كما إدريس الطيب من يأتي حينا وآخر، في المكان غير هؤلاء كثير من الرواد، مثل مريم العجيلي الكاتبة وياسمين الممثلة، وعلي المصراتي التلفزيوني.

جمع يلعب الشطرنج صباح مساء، جمع يلعب ورق اللعب مساء، ومثلي يلاعب الكلام، غارقا في حلم من تراب وطين وماء، ومكياتا دون سكر، وجنون موكد، هذا مشهد يطرز صباح كل يوم ما عدا الجمعة، والمناسبات الرسمية والدينية. وأحيانا أتصيد مخيباتي أمام المقهى، أضيع ما تبقي من قواي في مشهد مخاتل، أدخل مرة مبني البريد، حيث أنتظر لا شيء، فليس للكاتب من يكاتبه.

كل يوم تقريبا، أنهي نصف نهاري، في مقهى المنتدى الإذاعي، زاعما أنه مكتبي حينا، وحينا ثقب الأوزون، الذي تنقض شمس قلبي منه عليّ، وهو ملمة أصدقاء، حوار، مقالب، تبادل أخبار، فمنافع صغيرة، ما جد في الانترنت والكومبيوتر، ما كتب أحدنا أو مثل أو أخرج أو رسم، كل منا يُصدر خيباته للآخر، ويحسده في ما تحقق من أمانيه، إن كان ثمة ما تحقق.

أعود كل يوم، بعد أن يعود أهل المدينة إلي بيوتهم، قاطعا شارع بنغازي الرئيس، نحو بيتي في حي البركة، ذلك عند الساعة الثالثة بعد الظهر وحينا نضيف نصف ساعة، أصلُ البيت مستنفدا.مقهى تيكا الاسم الحركي لجيلي، جيل السبعينيات إن شئت، وللحق كنا موزعين بين مقهى بازامه ومقهى تيكا، الذي

لا شيء يلفت الانتباه إليه، غير كونه ينحشر بالقوة وبالفعل، كشق خفي وأنثوي، ليس من عزمه في شيء أن يقول ها أنا ذا، وليوكد عزمه هذا، فليس ثمة كراسٍ خارج أمتاره القليلة، رغم اتساع السقف القوسي أمامه، لم يقطع الرصيف، حيث قتلت الأرصفة في مجمل المدينة.

حافظ الروائي صالح السنوسي على مقعده، وغادر السبعينيون المكان، لما غدر بهم الزمان: هنا في مقهى تيكا تجمعنا، عمر الككلي وعلى الرحيبي من طرابلس، يدرسان الآداب وحقوق بنغازي، وعبد السلام شهاب يكتب قصة الشباب، والرسام محمد نجيب يُطل وجلا حينا وكثيرا ما يغيب. عند سي تيكا نشرب ما نحب وما لا نحب، ونتداول الساخن من أحاديث الحقبة المضطرمة وتجيش خواطر.

هناك في مقهى بازامه، حيث لم يعد للكاراكوز مطرح، لمة أخرى تجمع القاص محمد المسلاتي، الكاتب سالم مفتاح، سالم الكبتي ورضا بن موسي، والشاعر السنوسي حبيب وأحيانا منصور بوشناف. يخططون لحلقة جديدة، من برنامجهم الإذاعي الناجح – الملتقى، ونشكل للملتقى لوحة ليسار، يافع وغفل عما يفعل الزمان: نتبادل الممنوعات، من كتب ومشروبات وأفكار، ورغبات عارمة في تغيير الكون.

كانت قهوتنا مُرة نحليها بأحلام طرية ، وكان المكان درب التبانة تغطيه طاقية المباحث، وتدوي فيه أشعار محمد الشلطامي، مناشيرنا السرية.