Atwasat

الديمقراطية التوافقية بين الطوائف والجهات

سالم العوكلي الثلاثاء 24 مايو 2022, 10:40 صباحا
سالم العوكلي

تواجه المجتمعات المتعددة الطوائف أو الأعراق مشكلةً وجودية تجعلها عرضة للانقسام أو الحروب الأهلية، ما يجعلها تقابل تحديات عديدة بخصوص إنشاء نظام سياسي مناسب تتغلب من خلاله على النزوع للانقسامات أو الحروب المحلية، ويرى المحللون أو المصلحون السياسيون أن هذه المخاوف لا يمكن تهدئتها إلا عبر تبني نوع من الديمقراطية التوافقية بديلا لدول الإكراه التي غالبا ما تنتعش في ظلها هذه الانقسامات كلما ضعفت أو انهارت هذه الدولة، وهي ديمقراطية نابعة من لب الديمقراطية الكلاسيكية، من المفترض أن تتعايش في ظلها هذه التناقضات وفق ميثاق وطني يوزع السلطات بينها، ووفق خصائص هذا النظام المتمثلة في: الائتلاف الواسع، الفيتو المتبادل، النسبية، والاستقلال القطاعي.

بمعنى تمثيل الشرائح الطائفية أو العرقية أو غيرها في العملية السياسية بدل إقصاء الأقلية من قِبل الأغلبية (ديمقراطية الأكثثرية).

وقد ابتُدع هذا النموذج أولا في أوربا، في دول متعددة الأعراق يصعب فيها تطبيق الديمقراطية التمثيلية مثل: هولندا، بلجيكا، سويسرا، النمسا، وبعد الحرب العالمية الثانية أُخِذ بهذا النموذج في دول مشابهة خارج أوربا، مثل الهند وجنوب أفريقيا وماليزيا وكولومبيا ولبنان، وفي العراق بعد سقوط نظام صدام.

وللتركيز على نموذجين مهمين، طُرح في الآونة الأخيرة سؤالٌ عن: لماذا نجح هذا النموذج في ماليزيا، على سبيل المثل، وفشل في لبنان؟، ويُرجع بعض المحللين هذا الفرق إلى عاملين مهمين: النمو والازدهار الاقتصادي المناغم للتحول السياسي في ماليزيا، وتبني أطراف هذا التوافق الديمقراطي للميليشيات المسلحة كذراع عسكري للحزب السياسي كما حدث في لبنان ويحدث الآن في العراق. وفي هذه الحالة تخترق المغالبة المسلحة مبدأ التوافق السياسي للطوائف أو الأعراق التي يتشكل منها المجتمع. من جانب آخر تعقيد التركيبة الطائفية والتغير في توازنها المستمر، وارتهانها لتدخلات خارجية، أدى بهذا النموذج للفشل على جميع الأصعدة، بينما الاستقرار السياسي، وعدم ارتباط المكونات في ماليزيا بقوة خارجية، جعلا هذا النموذج ناجحا إلى حد كبير.

بينما النجاح الأوربي يرجع في أغلبه للأرضية العلمانية التي بنيت فوقها الديمقراطية التوافقية، وهي تبدو ضرورية لمجتمع تتعدد فيه الطوائف، مثلما هي ضرورية لبناء ديمقراطية في دولة دون طوائف، يُفصل فيها الدين عن السياسة، ويخضع دستورها وقوانينها لابتكارات الترقي الإنساني وما ينتجه التحضر من قيم تناسب طبيعة العصر.

وضمن هذه التوافقية التي يحرص عليها دستور الدولة، قد تحدث تحالفات بين القوى السياسية أو ائتلافات حزبية، تقحم مبدأ المغالبة والأكثرية في هذه النوع من الديمقراطية مثلما حدث تحالف تكتيكي بين التيار الوطني الحر (المسيحي) في لبنان، وبين حزب الله (الشيعي)، ويُقترح في مواجهة هذه المغالبة مبدأ الفيتو المتبادل الذي يعد السلاح الأخير في حوزة الأقليات في مواجهة الائتلافات الكبرى، وقد يكون حق الفيتو المتبادل محددا بالدستور كما في النمسا، أو عرفا غير منصوص عليه كما في سويسرا وهولندا، أو مختلطا كما في بلجيكيا. ويشبه هذا الإجراء التحوطي ما حدث في ليبيا من مطالباتٍ، في حالة الاستفتاء على الدستور أو انتخاب الرئيس ــ بأن يحظيا بأكثر من 50% في كل إقليم بغض النظر عن الأغلبية الشاملة في القطر، نتيجة مخاوف من هيمنة الأكثرية في أحد الأقاليم.

إذاً الديمقراطية التوافقية تصور مبني في الأساس على مبدأ المحاصصة الدستورية، والمحاصصة هي لب كل المبادرات السياسية في ليبيا بناء على انقسامات جهوية وليس طائفية (وإن كانت بعض التيارات الدينية تتعامل مع المجتمع كأنها طائفة مختلفة فيه)، لذلك فنظريا ــ وأؤكد على مفردة (نظريا) ــ في ليبيا يطرح هجين مختل من ديمقراطية أغلبية تتبنى مبدأ المغالبة، وديمقراطية توافقية تتبنى مبدأ المحاصصة الجهوية.

بينما يلقى الدستور المقترح أو المصاغ أخيرا المقدم للاستفتاء عليه في ليبيا، عدة معارضات مختلفة المنطلق، فالبعض لا يراه دستورا يمثل ديمقراطية توافقية بما يضمن صراحة في نصوصه تقسيم السلطات والثروات بين الأقاليم بما يشبه نظام فيدرالي غير معلن رسميا، بينما البعض يعارضه من جوانب تتعلق بالحريات أو المادة الخاصة بالشريعة الإسلامية، ورغم أن لا طوائف في ليبيا يهددها هذه المبدأ، ما يجعل حتى التأكيد عليه مستغربا، إلا أنه من جانب آخر يمثل ضربا لباب الحريات التي يسعى إليها كل دستور حديث، والمفترض أن يشكل النقلة المهمة للتغيير الذي حدث في ليبيا، والمعارضة الثانية متعلقة في الغالب بالنخبة فقط.

الصورة العامة في ليبيا، دولة في الغرب يحكمها الإسلامويون وفي الشرق يحكمها العسكريون، وفي الجنوب انقسام بين النموذجين، وثمة تفاصيل معقدة داخل هذه الصورة، من استقطابات أخرى داخل الأقاليم نفسها كما نشهد الآن في طرابلس، لكن الهاجس الجهوي الثلاثي واجه إجراءات تأسيس الدولة الوطنية منذ استقلالها، وشكل عقبة أمام المبعوث الأول من الأمم المتحدة الذي عاد إلى الجمعية العامة ليؤكد على أن الدولة لا يمكن أن تنشأ إلا وفق نظام فيدرالي، بعكس ما ينص عليه قرار منح الاستقلال (موحدة)، وعُينت لجنة لصياغة الدستور وفق المحاصصة المتساوية بين الأقاليم الثلاثة، وكل اللجان خضعت لهذه المحاصصة الثلاثية، كما واجهت اللجنة مشْكلة العاصمة لينص الدستور الأول على عاصمتين في الغرب والشرق.

وشُكلت كل مجالس الوزراء المتعاقبة وفق المحاصصة الجهوية، وبعدها ولم تنجح دولة الإكراه التي حكمت أربعة عقود في ترويض هذا الهاجس الكامن الذي استمر مكبوتاً يتململ داخل طبقات هذه المنظومة القومية أحيانا أو الأممية، واقتُرِحت مدينة سرت كعاصمة متوسطة بين هذه الأقاليم، ووزعت مقرات المؤسسات السيادية بينها مثل المصرف المركزي ومؤسسة النفط، لتشكل ثنائية المركزية والتهميش غذاء القلق الجهوي طيلة هذه العقود الشمولية، ولم تتغلب عليه أطروحات التكتيل الجماهيري، ولا توزيع المؤتمرات الشعبية والكومونات على رقعة الأرض، ولا الجهاز الإعلامي التعبوي والأغاني والهتافات، بل إن وسواس الوحدة العربية حل محل أي تفكير في آليات أو استحقاقات صوب وحدة وطنية راسخة.

وبعد ثورة فبراير استمر الهاجس نشطا منذ تشكيل المجلس الانتقالي ومكتبه التنفيذي، ورغم ما حدث من غزل بين المدن والجهات المختلفة فترة الثورة، إلا أنه سرعان ما طارت السكرة وجاءت الفكرة من جديد، لتعمل بقوة، وتفضي مع تلاشي قوة الإكراه إلى حروب أهلية وخطابات كراهية متبادلة، واستقطابات حادة مازالت تجهض اي طموح لبناء دولة مدنية موحدة، وهو أمر يجب أن نتعامل معه بجدية، ولن تجدي حالة الإنكار العاطفية التي مازالت ترفع الشعارات.

وتتغنى بالوحدة والنسيج الاجتماعي الواحد، أو غيرها من الأسطوانات المشروخة التي لن تغير من واقع الحال شيئا طالما لم تُوضع استراتيجيات وخطط تتعامل مع هذا الواقع، وتهدف على المدى البعيد إلى تحقيق انصهار وطني، أهم مرتكزاته، تنويع مصادر الدخل، والتنمية المكانية، وتحسين العلاقات مع كل الفضاءات الأخرى ما سينعكس على العلاقات الداخلية بتفعيل مصادر دخل أخرى عابرة للأقاليم، مثل السياحة والاستثمار الأجنبي وتجارة العبور والطاقات النظيفة وغيرها.

ولن يخترق هذا الهاجس القديم سوى طبقة وسطى، وتشكيلات نقابية وحزبية، ونظام علاقات ومصالح جديد، في مجملها عابرة للحدود الداخلية وتخترق أفقيا كل الجهات، وكل هذا كفيل به الزمن، وكفيلة به تعديلات دستورية ستستجيب لهذه المتغيرات.

الدستور الحالي الذي يتجادل بشأنه مجلسان جهويان، أحدهما يتبع الشرق والآخر يتبع الغرب، لم يتعامل إطلاقا مع هذه المعضلة الوجودية التي أنكرها، وحلّق فوقها بجناحين من الشمع سيذوبان مرارا في قيظ هذه الجغرافيا المترامية التي من الواضح أنها تحتاج إلى ميثاق توافقي يقوي من عوده رفاه اقتصادي متاح إذا ما استقرت الدولة.

في المجمل جنة الديمقراطية االلبنانية الغناء التي أبهرت العرب لعقود محدودة شبه تلاشت، والسبب كما ذكرنا تبني هذا النموذج الذي نجح في أوربا وفي ماليزيا للنهج الميليشاوي المسلح في لبنان، الذي لا تنجح معه أي ديمقراطية تمثيلية أو ليبرالية، لأن الميليشيات تنقل الصراع إلى مغالبة يضبطها نفوذ السلاح.

ولأنها تتحول إلى وكيلة لقوى خارجية تتدخل في الشأن الداخلي. وللأسف تتحول التجربة الليبية بعد التغيير الكبير الذي حدث إلى نموذج أسوأ حيث ذكرت أكثر من مرة أن العصابات المسلحة في ليبيا لا ترقى حتى لمستوى أن تكون ميليشيات، ولأنها، ما عدا بعض الفرق المؤدلجة، لا تنتمي إلى قاعدة طائفية أو إثنية، بل جهوية غالبا أو قبلية أو منتمية لمدينة ما، وهذا النوع من المغالبة المعقدة الذي سيخترق بالسلاح أي طموح نحو ديمقراطية توافقية أو تمثيلية، سيكون العقبة الكأداء أمام بناء الدولة، أي نوع من الدولة.


واختلافنا الوحيد عن لبنان يتمثل في النفط الذي يصرف على الجميع، ومازال يحافظ على ماء وجه عملتنا، غير أن هذا الوضع لن يستمر طويلا، فالنفط نفسه يتحول إلى ورقة سياسية يتلاعب بها الجميع، يقفله من يشاء ويفتحه من يشاء، بينما كل التدخلات الدولية لا ترى في هذا القطر سوى لمعان هذا الزفت الأسود، وإدارتها للأزمة مرتبطة بمستقبله ومستقبل المخزن الغازي الهائل في ليبيا المهدد لأسواق أخرى.