Atwasat

نحن وتاريخنا

جمعة بوكليب الأربعاء 18 مايو 2022, 02:02 مساء
جمعة بوكليب

قرأت، في الفترة الأخيرة، كتاب الدكتور مصطفى رجب يونس المعنون «المنفى الذهبي - إيتالو بالبو في ليبيا. أضواء وظلال» الصادر عن دار نشر الفرجاني 2022، واستحق بجدارة اهتمامي، لما قام به المؤلف من جهد في البحث والتنقيب في الأرشيف الاستعماري الإيطالي. الكتاب، في رأيي، يشكل إضافة مهمة وثمينة لمكتبة تاريخنا الوطني الليبي خلال الفترة الاستعمارية، وسيكون مرجعاً مهماً للباحثين مستقبلاً.

ما أثار فضولي هو أن د. يونس تجرأ على ما يعتبره باحثون ليبيون آخرون، في التخصص الأكاديمي نفسه، خطوطاً حمراء لا يجوز الاقتراب منها، وذلك بتعرضه بالبحث والدراسة والنشر لجنرال الجو إيتالو بالبو، حاكم ليبيا، الذي لعب دوراً مهماً وحيوياً في تاريخ الحركة الفاشية ودولتها الاستعمارية.

إحجام الأكاديميين الليبيين ناجم، في نظري، عن توجس وخشية مما قد تلحقه بهم ردود الأفعال من أذى وأوصاف هم في غنى عنها. وأنا هنا لست في سياق اللوم والعتاب، بل هدفي الإشادة والتنويه بالجهد المبذول أكاديمياً، والجرأة على تحدي المخاطر، بهدف كشف المخبأ والمحظور، وتقديمه للقارئ في ليبيا وغيرها من البلدان.

وأنا، وإن لم أكن من المتخصصين في التاريخ، إلا أنني أعتبر نفسي قارئاً مجتهداً ومثابراً، بالمتابعة والقراءة، لما يصدر من كتب تتعلق بتاريخنا الوطني، وخاصة المتعلق منه بالمرحلة الاستعمارية الإيطالية.

وأذكر أنني استمتعت كثيراً، في فترة مبكرة من عمري، بكتاب «مذكرات جولييتي»، الذي ترجمه إلى العربية مشكوراً المرحوم الأستاذ خليفة التليسي. كما حرصت، في الفترة الزمنية نفسها، على قراءة ما كتبه الجنرال رودولفو غراتسياني عن مرحلة وجوده في ليبيا، وترجم إلى اللغة العربية، وخاصة كتابه «نحو فزان».

وما دعاني للخوض في هذا الموضوع هو عثوري صدفة على اسم الجنرال رودولفو غراتسياني، لدى اطلاعي، أخيراً، على عرض لكتاب منشور في مجلة لندن لعرض الكتب- London Review of Books. بتاريخ 21 أبريل 2022. الكتاب مكرس للكشف عن المذابح المرتكبة من قبل الاستعمار الإيطالي ضد الكنيسة القبطية المصرية في إثيوبيا، وصادر العام 2021 واسم مؤلفه إيان كامبل.

المؤلف يتعرض في كتابه للدور الذي لعبه الجنرال غراتسياني في تلك المذابح، بعد الغزو الإيطالي لإثيوبيا العام 1935، وتعيينه نائباً لملك إيطاليا في شرق أفريقيا، حيث تعرض العام 1937 لعملية اغتيال في أديس أبابا، وكان رد الفعل الإيطالي خارج حدود التصور من الضراوة والبشاعة، خاصة ضد الكنيسة الإثيوبية، بأوامر من غراتسياني نفسه.

ليس موضوعنا تلك المذبحة المهلكة، وما يهم هو أن المؤلف كشف حقيقة وهي أن الجنرال رودولفو غراتسياني رغم سجله الدموي في ليبيا وإثيوبيا ما زال يحظى حتى الآن بسمعة طيبة في إيطاليا والخارج أيضاً. وظل يُنظر إليه بانفصال عن النظام الفاشي الذي كان يحارب في صفوفه، وخدمه بتفان وإخلاص.

ويقول المؤلف إنه لا يوصف في إيطاليا بكونه مجرم حرب ولو من حين لحين. ومنذ عشرة أعوام مضت، قام سكان قريته المسماة (Affile) جنوب مدينة روما بإقامة ضريح له وحديقة تذكارية، وقامت الدولة الإيطالية بالمساهمة في ميزانية البناء والتشييد.

لدى هزيمة إيطاليا في الحرب، فر الدوتشي موسوليني والجنرال غراتسياني معاً شمالاً، وكانا محمّلين بأموال وذهب منهوب من إثيوبيا.

وقبض عليهما المحاربون الإيطاليون المناوئون للفاشية، المعروفون باسم (Partisans). يقول المؤلف إنهم عرفوا موسوليني وقبضوا عليه، وأطلقوا سراح غراتسياني الذي كان متخفياً في زي جندي ألماني، بعد أن صادروا كل الذهب والأموال التي كانت معهما.

وفر غراتسياني وسلم نفسه للحلفاء، وحكم عليه بالسجن لمدة 19 عاماً، بتهمة التعاون مع النازيين، لم يقض منها في السجن سوى أشهر قليلة.

وبعد إطلاق سراحه عاود نشاطه السياسي بالانضمام إلى الحركة الفاشية الاشتراكية الإيطالية الجديدة، وكتب مذكراته التي لا قت رواجاً تجارياً كبيراً. وحين مات العام 1955 قام رتل عسكري فاشٍ، لأول مرة بعد عدة سنوات، بالسير في شوارع روما تكريماً له.

المقالة التي قرأتها حول الكتاب من تأليف السيد جون فوت - John Foot، والمعلومات الواردة في هذه السطور مستقاة منها. والسؤال حول الفاشية الإيطالية ما زال قائماً، مقابل الإنكار الايطالي المستمر، والقول إن الفاشية الإيطالية لم تكن في فظاظة ووحشية الحركة النازية الألمانية، رغم أن وقائع التاريخ الموثقة في مختلف البلدان التي تعرضت للاستعمار الفاشي تؤكد أنها لا تقل عنها وحشية.

السؤال الآخر إلى متى نستمر في الاعتماد على المؤلفين الأجانب في الاهتمام بتاريخنا، خلال المرحلة الاستعمارية، وبالبحث والتنقيب عن المشاركين في صنعه، سواء من الليبيين أو من المحتلين الإيطاليين؟ وهل يا ترى سنقرأ قريباً كتاباً أو كتباً من إعداد مؤلفين ليبيين، حول دور الجنرال رودولفو غراتسياني في ليبيا كما فعل د. مصطفى رجب يونس في كتابه عن إيتالو بالبو؟