Atwasat

شيرين أبوعاقلة ومزيد من الرصاص

سالم العوكلي الثلاثاء 17 مايو 2022, 02:52 مساء
سالم العوكلي

أثار مقتل الصحفية الشهيدة، شيرين أبوعاقلة، مكابيت تاريخية وسيكولوجية عديدة، ورغم أنها تواجدت على شاشة الجزيرة شبه يوميا، منذ ربع قرن، إلا أن مقتلها وما عقبه من جدال سفيه حول أحقيتها بالترحم عليها من قبل المسلمين (شعب الله المختار)، طرح السؤال الخبيث من جديد حيال ديانتها.

لن أخوض في هذا الجدال السخيف، لأن ما يقال بشأن ديانتها مجرد سفاهة تنتجها ثقافة القطعان البشرية السائدة الآن، ولا يرقى حتى لمستوى أن يكون رأيا أو وجهة نظر تستحق الجدال، وهي أمور تتعلق بحالات نفسية وركام من العقد سببها الإحساس بالدونية مقارنة بعالم يتقدم بوتيرة سريعة، بل وتصب في قلب العنصرية والكراهية التي ترفضها كل الأديان وكل المباديء الأخلاقية، وتجرمها القوانين التي أبدعها التحضر والترقي الإنساني.

لكن ما يعن لي قوله سيكون حول الفصام الذي يعيشه هؤلاء المتنعمون بنعم أناس يكرهونهم، فمن يصدحون بمثل هذا الهراء تجاه (النصارى) أو كل أناس مختلفين عنهم، هم في الواقع يغرقون في كل منتجاتهم، بل إن حياتهم من المستحيل أن تستمر في هذا العصر لولا ابتكاراتهم وما يصدرونه لنا من سلع تغمر جل حياتنا اليومية، يلبسون منهم ويستخدمون مواد التنظيف منهم ويأكلون منهم ويتداوون منهم، وحتى في العبادات يصلون على سجاد منهم، ويرفعون الآذان بمكبرات صوت منهم، ويتوضؤون في حمامات كل ما فيها يأتي منهم، وبماء طهور ترفعه من عمق الأرض مضخاتهم أو تنقيه محطات التحلية المستوردة منهم، وحتى المصحف يُطبع على ورق منهم وبآلات طباعة وحبر منهم، ويُقرأ على ضوء منهم، ويُخزن في أقراص صلبة منهم، وفي قلب هذه العلاقة لا يطلبون منا أن نترحم عليهم لأن هذا الأمر غير منوط بنا، ولكن من الأخلاق أن تحترمهم طالما فرصة عيشك نظيفا وكاسيا وشبعانَ وسليما مرتبطة بهؤلاء الذين تزدريهم.

حضر أحد العاقلين خطبة جمعة لشيخ متوتر مزدحم بمثل هذه الكراهية، وفي نهاية الخطبة دعا على النصارى بحرق زرعهم، وجفاف ضرعهم، وجعل أموالهم غنائم للمسلمين ونسائهم سبايا لهم (دعاء منابرنا الأثير). وحين خرج اعترضه هذا العاقل، وقال للشيخ أنت (تدعي علينا يا شيخ وليس عليهم،) فإذا جف ضرعهم وأحرِق زرعهم فسنموت من الجوع، لأن الحليب ومشتقاته والقمح ومشتقاته تأتينا منهم، ولعل الحرب الدائرة في الشرق الأوربي الآن؛ التي تهددنا، وتهدد جميع الدول الإسلامية الورعة، بالجوع، مثال راهن على هذا الارتباط الوجودي، لأننا مجتمعات شعائرية مشغولة بطقوس العبادة فقط، وبإنتاج الفتاوى، وبحيازة مفاتيح الجنة والجحيم في جرابنا المقدس.

مشغولون بكل ذلك عن العلم والابتكار، عن التنمية أو إنتاج قوْتِنا أو اختراع كل ما يحقق استقلالنا الغذائي، ولأن الأمر متعلق بحالات نفسية متأزمة سنظل نصب اللعنات عليهم عبر كل المنابر الرقمية التي أتاحوها لنا.

ويكفي هذا.
الكثيرون لم يعرفوا أن المراسلة شيرين مسيحية إلا بعد حادثة الاغتيال، باعتبار اسمها العربي وملامحها ولغتها وطبيعة مراسلاتها وتقاريرها، وصورها بالحجاب الإسلامي حين تراسل من داخل باحة المسجد الأقصى، بينما كونها مسيحية يعطها الحق مضاعفا في أن تدافع عن الأرض التي مشى عليها نبيها. هي مولودة في البلدة التي ولد فيها النبي عيسى عليه السلام، وكل سيرته في هذه الأرض التي كانت تمشي عليها وهي تغطي مآسي الفلسطينين وتوصلها إلى ضمير العالم، ومَ همن غير ذلك جاءوا عابرين أو فاتحين أو غزاة أو باحثين عن خرافة، والكوفية التي كانت تغطي جثمانها إعلان عن هوية كل مكونات وأطياف أهل فلسطين.

ومن هذا المنطلق، فإطلاق صفة (الإسلامية) على بعض مجموعات المقاومة ضد جوهر القضية، وضد منطق التاريخ، ومُقصٍ لمكونات عديدة من المجتمع الفلسطيني الأصيل، صاحب الأرض، من الذين يقفون مع هذه المجموعات في خندق واحد.

فسكان فلسطين الأصليون هم كنعانيون وبلستينويون وفينيقيون ويبوسيون وأموريون، ويهود أصليون استوطنوا هذه الأرض منذ قرون طويلة وتعايشوا فيها، قبل أن تنتعش الخرافات، وتصنع الدول المنتصرة في الحرب العالمية كيانا تعسفيا لدولة (يهودية) فاشية، آخر ما قامت به اغتيال صحفية كانت تسير فوق خطى نبيها وأجدادها من كل الديانات، ليستمر اغتيالها برصاص فتاوى حمقاء تُحرم الترحم عليها من قبل من كانت تروي قصصهم وتوصلها إلى ضمير العالم.

وهذا ما يثير شجونا تاريخية عدة جعلت من الطارئين سلطة مهيمنة، ومن السكان الأصيلين أقلية مقصاة إلى هامش الهامش وفي كثير من بقاع الأرض.

نعم توسع العرب فاتحين في إمبراطورية تحت لواء نشر الدين الإسلامي، مثلما توسع قبلهم الرومان و الإغريق وغيرهم من الإمبراطوريات، ثم عادوا إلى مواطنهم الأصلية دون أن تسمى مستعمراتهم السابقة (رومانية) كما تسمى دول عديدة الآن (العربية) تعسفا، ومثلما هيمنت إمبراطوريات الاستعمار الحديث ونشرت لغتها ودينها في بقاع كثيرة في العالم، ثم انحسرت إلى مواطنها الأصلية.

نعم تركت لغتها وبعض مواطنيها وغالبا دينها في هذه المناطق، لكن جميعها انفصلت عن هذا الإرث، وما عادت تسمى بريطانيّة أو فرنسية أو إسبانية أو غيرها، وحين غزا الإيطاليون ليبيا في الحقب الكولينيالية كجزء من خروج الجيوش الأوربية من قارتها صوب العالم الآخر، انتعش مع وصول الفاشية للحكم في روما هذا الهاجس المضاد لمنطق التاريخ، فأصبحوا ينقبون عن عملات روما القديمة وآثارها ليكرسوا شرعية احتلالهم لهذه الأرض وفق ما اعتبروه مقدساتهم الرومانية، لكن في النهاية رجعوا إلى روما تاركين آثارهم القديمة والجديدة، مثلما تراجعت الإمبراطورية الرومانية إلى روما، وحين استقلت ليبيا كان التفكير في قانون الجنسية الجديد أكثر الأمور تعقيدا وجدلا، واتفق المؤسسون في النهاية على أن من تواجد على هذه الأرض مدة عشر سنوات من حقه الحصول على جنسية الدولة الليبية المستقلة.

وانطبق هذا على الطليان المستوطنين، لكنهم أصبحوا إيطاليين ليبيين، بدل ان يكون الليبيون إيطاليين كما رغبت فاشية موسيليني التي هي ضد منطق التاريخ والجغرافيا، وحين طرحت مسألة تعيين عضو ممثلا للأقليات في ليبيا في بعض لجان تهيئة الدولة للاستقلال، من إيطاليين ومالطيين ويونانيين، اعترض المؤسسون في ليبيا على إضافة اليهود إلى هذه القائمة بقولهم أن اليهود ليبيون أصيلون وليسوا أقلية، لكن في النهاية ما يحدد المواطنة في أي جزء من العالم هو قانون الجنسية، لذلك فالمغالبة مبدأ لاإنساني ووصف مجتمع بالأقلية لاإنساني.

أما بالعودة في التاريخ، فسنجد فيه ظلما كبيرا لأناس شكلوا مبتدأ الهوية من سكان أصليين للأرض، وهذا لا يمنع أن تلتحق بهم أقوام أخرى وتصبح جزءا من هوية الأرض، لكن ما يحدث غالبا أن هذه الشعوب الملتحقة تهيمن في النهاية وتقصي المكون الأصلي، تمنع لغته ومرتكزات ثقافته، ومع الوقت يطلق على هذه المكونات الأصلية تسمية (أقليات) وترصد لحقوقها مادة تعيسة في الدستور، مثلما حدث مع سكان شمال أفريقيا الأصليين بعد الفتوحات الإسلامية (العربية) وما عقبها من هجرة قبائل عربية، وحين نضع صفة (عربية) في تسمية هذه الدول نرتكب نوعا من التعسف والإقصاء بل ونوعا من الفاشية، مثلما سعت فاشية إيطاليا لطلينة ليبيا بالكامل واعتبارها شاطئها الرابع.

من الممكن أن تنتشر لغة الغازي أو الفاتح أو المستعمِر (وهي تسميات لظاهرة تاريخية واحدة)، ومن الممكن أن يشيع دينه ومذهبه، لكن دون أن يطغى على المكون الأصلي، فكل دول أمريكيا اللاتينية تتحدث الأسبانية (ما عدا البرازيل) ودانت بالمسيحية، لكن لا يمكن أن تسمى دولة الأرجنتين (جمهورية الأرجنتين الأسبانبة) أو جمهورية البرازيل البرتغالية، وتَشكلَ في هذه الدول ملمح جديد يسمى خلاسيا، هو مزيج من ملامح الهنود والأفارقة والأسبان، وهو هوية هذه الدول الجديدة.

وبالمثل لا يصح إطلاق صفة الفرنسية على مستعمرات فرنسا السابقة أو البريطانية على مستعمرات بريطانيا السابقة، والأمر مثله مثل دول الشرق الأقصى، أندونيسيا أو ماليزيا أو الباكستان التي اعتنقت الإسلام دون أن تفرط في هويتها الأصلية وفي لغتها.

وينطبق ذلك على مصر الفرعونية وسكانها الأصليين من القبط الذين احتفظوا بديانتهم، والذين عاشوا في رعب لقرون عديدة في ظل خطاب قومي يعربي راديكالي، وكانت ذروة هذا الرعب حين وصل فصيل إسلامي متطرف للحكم بعد ثورة يناير، وكاد أن يحصل معهم ما حصل لمسيحيي العراق وسوريا من نزوح، أو أرمن تركيا من إبادة.

وعموما هذا أصبح في الغالب واقع حال لا يمكن تغييره بسهولة، ولكن الوعي به ربما يجعلنا نتواضع قليلا، ويجعلنا أكثر تسامحا وتعايشا مع كل هذه المكونات الأصيلة. التاريخ لم يعد في ذمة الماضي لأنه غالبا ما يوظف سياسيا، وتشويه التاريخ يخدم أغراضا سياسية مشبوهة، وعدم الوعي به يحيلنا إلى طغاة إقصائيين مكفرين لمن عدانا، مثلما يحدث الآن مع الشهيدة شيرين التي هي بالتأكيد ليست في حاجة لأدعيتنا، لأنها فعلت طوال حياتها ما تجيده وما تؤمن به، وجعلت من صوتها رسائل ضمير لقضية شعب ينتزع من أرضه، وتُنكل به فاشية صهيونية تدعمها بقوة كل النظم (الديمقراطية) في العالم.