Atwasat

حكايةٌ لندنية

جمعة بوكليب الأربعاء 11 مايو 2022, 01:03 مساء
جمعة بوكليب

لأن الناس، أينما كانوا، يحبّون الحكايات، تحرص وسائل الإعلام المختلفة على إشباع تلك الرغبة لديهم بما تقدمه لهم من وجبات دسمة يومية، مليئة بما يحدث من وقائع وأمور حياتية.


بعض الحكايات متميزة بتفاصيل تجعلها تطير، بلا أجنحة، تحت أكثر من سماء. والحكاية التي قرأتها في إحدى الصحف البريطانية، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، قد تكون واحدة منها. وتتعلق بـ "عركة" بين طرفين غير متساويين في القوة والنفوذ. الطرف الأول مجموعة "شيابين" متقاعدين، سُود البشرة، من مختلف بلدان جزر الهند الغربية. والطرف الثاني المجلس البلدي لمنطقة ويستمنستر في غرب لندن. المجلس البلدي كان منذ1964 في قبضة حزب المحافظين، لكن في الانتخابات المحلية الأخيرة، التي جرت يوم الخميس الماضي، الموافق 5 مايو الجاري، فقد المحافظون السيطرة على تلك القلعة التاريخية، التي تضم قرية ويستمنستر حيث مقر البرلمان ودواوين الوزارات ومكتب رئيس الحكومة، وانتقلت مفاتيح السيطرة إلى أيادي حزب العمال.

وواضح من الحكاية أو "العركة" أنها حدثت في حقبة المحافظين، ولا علاقة لحزب العمال بها. لكن القادمين الجدد مطلوب منهم إيجاد حلول لها.


الحكاية وقعت في منطقة في غرب لندن تسمى ميدا هيل- Maida Hill. وبالتحديد في ميدانها الصغير. والضجر والملل هما المسببان لها. ذلك أن العواجيز المتقاعدين يعانون من الوحدة والوحشة في بيوتهم، ويفتقدون وجود مكان مخصص من قبل البلدية، يكون بمثابة ملتقى لهم يقضون فيه وقت فراغهم. عدم اهتمام المجلس البلدي بتوفير المكان، جعل العواجيز يلجؤون إلى الميدان ليكون مكان الملتقى اليومي. وفي ذلك المكان يلعبون الورق والدومينو والضاما وغيرها من ألعاب تزجية الفراغ. المجلس البلدي التجأ إلى القضاء لمنعهم من تزجية فراغهم، بدعاوى ينكرها العواجيز. أولها الإزعاج الذي يسببونه لغيرهم من رواد الميدان، بسبب علو أصواتهم، ومن الموسيقى الحريصون على سماعها. وثانياً أنهم يتبولون في الميدان، وثالثا أنهم يسببون في رواج بيع المخدرات! وينكر العواجيز التهم، ويتهمون المجلس بالعنصرية.


القضية عادت إلى المحاكم بعد أن قام العواجيز بتأجير محام للدفاع عنهم، وحصل لهم على حكم يلغي الحكم السابق ويسمح بعودتهم إلى الجلوس في الميدان. لا أحد يعرف على وجه الدقة المنحى الذي ستأخذه الحكاية مستقبلاً، أو كيف سيتعامل أعضاء المجلس البلدي الجديد مع القضية. هل، مثلاً، يتعاطفون مع العواجيز، ويتفهمون مشكلتهم مع الوحدة والقعدة في بيوت تسكنها الوحشة، ويسمحون لهم بالالتقاء في الميدان، أو يقومون بتوفير مقر لهم، أم أنهم سيواصلون رفع الدعوى مجددا أمام القضاء؟ لا أحد، حتى الآن، يستطيع التنبؤ بما سيحدث.


قضية العواجيز السود، الغرباء، وحاجتهم الماسة إلى الالتقاء فراراً من الضجر والملل في بيوتهم تستحق التعاطف. ولو كانوا في ليبيا مثلا ً لما وجدت المشكلة أصلاً. فالشيابين المتقاعدون و "البلوك" في كل مكان، كما كانت أمي تقول لأبي رحمه الله، وهي تحثه على التخلص من عادة الجلوس أمام العمارة بعد التقاعد. ولكانوا انخرطوا في لعب الخربقة أوالورق، وممارسة عادة تقييد أحوال عباد الله، وهم يجلسون أمام البيوت، ويتنقلون "ببلوكاتهم" من مكان إلى آخر، هرباً من حرارة الشمس. لكن ميدا هيل غير طرابلس، أو غيرها من المدن والمناطق، التي يموت فيها الشيابين الليبيون المتقاعدون من شدة الضجر والملل، ألف مرّة في اليوم. وبالتأكيد، فإن ورقة الاتهام المسجلة ضدهم في القضية لا تخلو من الصحة رغم إنكار العواجيز. ذلك أن الحماس المصاحب للعبة الدومينو أو الضاما أو لعب الورق معروف، ويكون في العادة مرفوقاً بالخبط على الطاولة وبعلو الأصوات، لدى احتدام المنافسة. وبخصوص التبول في الميدان، فإن العواجيز رغم إنكارهم للتهمة، لا يستطيعون الهروب من حقائق العلم والبيولوجيا. وأهمها أن تقدمهم في العمر، يعني تعرضهم لمخاطر الإصابة بتضخم البروستاتا، وضعف الصمامات المانعة لتسرب البول. وهذا يعني أن عادة التبول تكون أكثر وأصعب لديهم من صغار السن. ونظرا لتعذر عودتهم إلى بيوتهم للتخلص من قطرات البول الزائدة، لذلك قد لا يجدون غضاضة في الالتصاق بجدار ما في ذلك الميدان الصغير، وإفراغ مثاناتهم من حمولتها البولية، والعودة إلى الملاعب من جديد. وبالتأكيد، فإن تكرار ذلك الأمر من كل واحد منهم سوف يحول تلك الزاوية في الميدان إلى مبولة بلا أبواب، و بروائح لا تطاق. لكن قضية ترويج المخدرات تبقى عالقة من دون تفسير. والاحتمال الأقرب للواقع، هو أن العواجيز لا يكذبون في إنكارهم للتهمة. والأرجح أن لقاءهم اليومي وما يصاحبه من دعابات وحماس وعلو أصوات وموسيقى، ربما يكون سببا في استقطاب شباب المنطقة من العاطلين إلى الميدان بغرض التسلية، ويحتمل أن يكون من ضمنهم تجار بيع مخدرات.