Atwasat

مأساة النيهوم (2)

سالم الكبتي الأربعاء 27 أبريل 2022, 10:52 صباحا
سالم الكبتي

(..وأرى اليوم بأني
عبر تاريخ من الهمس المحاذر
غاض مني الصوت. إلا
رجفة الريح المسافر)
تيسير سبول

وأكرر هنا بأن (سوء الفهم) أو عدم الفهم في الأساس ينشأ واضحا عند هؤلاء الذين يحبون الظهور والكلام عنه.. ينشأ نتيجة للجهل التام بالنيهوم وبتجربته الفنية والفكرية والإنسانية على حد سواء. فهناك من يتحدث عنه وكأنه صاحب علاقة شخصية وطيدة به وهو شيء غير صحيح.النيهوم لم يكن طفلا ساذجا حتى يضحك أو يكذب عليه أطفال آخرون.

وهناك من يسقط عليه ادعاءات أو اتهامات لا تتعلق بالنيهوم على الإطلاق خاصة فيما يتعلق بدراسته في مقارنة الأديان وهو أمر مضحك في الأصل فليس هناك مايسمى بذلك والصحيح الأديان المقارنة أو الآداب المقارنة.. وهكذا إذا كان لابد من أن يكون الادعاء عند هؤلاء الصغار مقبولا من الآخرين. وهناك من يحاكي تجربة آخرين ويسقطها على النيهوم ويلبسها له. وهناك من يتحدث لمجرد الحديث فقط!

والنيهوم يظل مثيرا للاهتمام والجدل على الدوام وذلك يدل دلالة واضحة وكبيرة على أنه رجل غير عادي وصاحب موهبة وتجربة غير عادية في الوسط الذي يعيشه. وهذا الاهتمام يبدو عند من يتولونه بالحقد المتواصل واللعنات ونفث السموم.

والاختلاف الفكري أو العلمي مع النيهوم أو سواه مطلوب وتوضيح جوانب القصور أو الضعف مطلوب أيضا ولكن المشكلة كما أكدت تقع وتتحدد في سوء الفهم الذي يظل ينال النيهوم بلا انقطاع في حياته ثم بعد رحيله. لقد ألصقت به وحوله الكثير من الأقاويل وطارت هنا وهناك دون دراية حقيقية وعلى وجه الخصوص في الجانب السياسي إذا أعتبرنا أن النيهوم سياسي وليس كاتبا فقط.

والمشكلة في ذلك كله تكمن بأن النيهوم حصل في رقعة ضيقة بين السياسة والدين ولم يفهم من البعض خاصة عندنا في ليبيا. لقد لعب سوء الفهم والظن والحقد لعبته دون توقف ولم تخدم الظروف بهذا الشكل النيهوم على الوجه الصحيح رغم ألمعيته وشهرته اللاحقة.

وأقول هنا بأن النيهوم الذي كانت بنغازي قريته وكل المشارب والاتجاهات تلتقي بها ثم اصطحبها في تفكيره وفي حقيبته وطاف بها العالم بكثير من الحزن والغربة.. بأنه لو كان لبنانيا أو مصريا أو سواهما لتبدل الحال خاصة عند الليبيين الذين أجادوا رميه بالنبال الجارحة وبدلوا مواقفهم منه مرة ومرات أخرى.

 وأقول أيضا بأن النيهوم لو حضر زمن الفضائيات التي يجيد البعض الظهور فيها لقلب الدنيا بأفكاره وآرائه وصغر الكثيرون أمامه ولم يواصلوا الحديث!

والعجب في أن من يتحدث عن النيهوم بمناسبة أو دونها ينطلق لسانه وهو أعجز عن إدراك نتاجه الأدبي والفكري في سنواته الخصبة أيام مقالاته ودراساته في صحيفة الحقيقة وقبل مرحلة مجلة الناقد التي أعتبرها مرحلة طارئة مرت سريعا ولم تكن في مستوى معاناة وتجربة النيهوم أيام الحقيقة في بنغازي. إنهم يتحدثون عن مرحلة الناقد فحسب دون إلمام بجذور وتكوين النيهوم السابق لهذه المرحلة اللاحقة.

والعجب أكثر عندما يدرك المتابع ويشعر بالصدمة أن هؤلاء جميعا إلا فيما ندر لم يعايشوا الكتابات الأولى في مرحلة الحقيقة أو لم يقفوا عليها بعلمية ومنهجية ودراسة واعية دون تحيز معه أو ضده. وبهذا تحدث الفجوة في زيادة سوء الفهم وقصر النظر ويظل هؤلاء الذين يجيدون الحديث عن النيهوم في الفضائيات دون أن يقرأوه جيدا أو يحيطوا بتجربته وتجربة جيله وواقع وطنه يكررون ما يقولونه .

إنه الطنين بعينه ورجع الصدى. فليس هناك من جديد حول النيهوم. ما يقوله هذا سيكرره ذلك. ويظل النيهوم في عيده الخامس والثمانين في فخ الالتباس والادعاء.. والمأساة المحزنة نفسها حتى يبدو الأمر وكأنه متفق عليه. الكل يدعي ويتحدث ويصل إلى درجة الكذب والتخرص غير المبرر في كثير من الأحيان.

والعجب أيضا أن هذا كله يقع من ليبيين يفترض أن يكونوا على إحاطة شاملة بالواقع الليبي الذي عاشه النيهوم والظروف العامة وشخصية النيهوم نفسها.. مبدعا وفنانا أكثر منه أي شيء آخر. وكانت الالتباسات وسوء الفهم وخراب النية قد حدث في الأصل منذ فترة وتواصل وإن من وراء حجاب. تحددت هذه الالتباسات وكبرت ولم تنل كاتبا غير النيهوم في الواقع الذي يعيشه وتكررت بطريقة أو بأخرى وشملت البنود الآتية:

1. وصف بالمروق والإلحاد.
2. وبأنه دودة تنخر في عظام الأمة.
3. واتهم بالعمالة للغرب وإسرائيل.
4. ودعاه البعض بأنه (ناحوم) في الأصل وليس (النيهوم)
5. ثم إن هذه المقالات والأفكار التي ينشرها ليست له وإنما يرددها أو يسرقها من آخرين وثمة من يكتب له وأنه أيضا ينقل ما كتب إلى العربية وينسبه لنفسه وأن لا مصادر له ولامنهجية في دراساته.

هذه جملة قديمة من الالتباسات والتشويشات التي تكررت في حق النيهوم دون غيره منذ فترة وزاد عليها البعض بنودا أخرى تمثلت في أنه عميل للقذافي وكتب له الكتاب الأخضر وأنه وراء مصيبة الليبيين وأنه يورد الأسلحة في صفقات ضخمة وأنه يتنعم على حساب الشعب دون مبرر عند بحيرة جنيف وأنه لا موقف له مما جرى في ليبيا.

وهكذا جرى تقييم النيهوم وحده فكريا ودينيا وسياسيا واجتماعيا واختصرت هذه الأسباب كلها في أنه وراء مصائب ليبيا كلها!!

وهذه تحتاج إلى نقاش قصير جدا مفاده أن ذلك أغلبه كذب وبعضه مبالغ فيه وأجزاء منه لاتحتمل التصديق وبهذا لاتحتاج إلى التوقف عندها كثيرا. رغم أن كل الالتباسات والآراء مازالت تدور عبر هذه النقاط دون جدوى وسيؤكد التاريخ وسيرة الرجل ضعف هذه الأقاويل والاتهامات التي لاتستحق الوقوف عندها.

والصحيح أن تناقش آراء النيهوم وأفكاره اتفاقا أو تصادما معها إثرأء لمعنى الحرية الفكرية واحتراما لتجربة الفنان.. أي فنان من حقه أن يمارس حريته ويعيش تجربته لكي تكتمل هذه الحرية وتستوي التجربة مع الآخرين ولاتقتصر عليه وحده.

وهذا ما كان يسعى إليه أمثال النيهوم الذين عاشوا المأساة المحزنة في هذا الزمن.

والعجب أيضا في التأويلات والخيالات التي تعيش في أذهان من يعتقدون معرفة النيهوم عن قرب المتصلة بدراسته العليا.. وهو أمر لم يقع ولم يحدث أن اصطدم بسببه مع الأستاذتين سهير القلماوي وعائشة عبد الرحمن. الخيال نسج ذلك وحده. النيهوم أوفد في الأساس نهاية 1961 إلى جامعة ميونخ ثم القاهرة للدراسة العليا في فقه اللغة العربية وليس الأديان المقارنة.. أو كما يزعمون (مقارنة الأديان)!

فما الذي حدث بشأن تجربة النيهوم في دراسته العليا التي توقفت بسبب يجهله الكثيرون رغم أنه تكرر على لسان النيهوم نفسه وذكره أكثر من مرة. ما الذي حدث بعيدا عن الخيال واستلام الملف من القلماوي كما أشير في بعض اللقاءات؟!