Atwasat

جنون الأمن!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 26 أبريل 2022, 11:01 مساء
أحمد الفيتوري

باتت البلدان الأكثر تقدما، بلدان التقنية في العصر السيبراني، مهددة صباحا مساءً، كما تروج أيديولوجيا وإعلاميا، حتى إنها عادت القهقري لحماية نفسها إلى العصور الوسطى فاستعارت منها الأسوار. بلدان كثيرة على رأسها الولايات المتحدة وفي أسفلها بلاد اليهود إسرائيل، جميعها دول مسورة بالحديد الصلب والأسمنت المسلح.

بلدان مهمة الدولة الأساس فيها الدفاع، مما يعني الاستعداد لحرب ممكنة، ولأجل هذه الحرب، التي ستخاض يوما ما، لا بد أن تدجج بالسلاح. ومنذ «ناجازاكي وهيروشيما»، والتعبئة السلاح نووية واستراتيجيته توازن الرعب، ما لم يفد خلال الحرب الباردة، في تحصين إمبراطورية الاتحاد السوفيتي، ما أصيب بالترهل فالموت بالسكتة القلبية. ولم ينجح أيضا في إبعاد الحرب عن أوروبا، حيث أعادت روسيا النووية، باجتياحها جارتها أوكرانيا بدواعٍ أمنية، الحرب إلى القارة العجوز، قارة الحروب الكبرى. باعتبار «أن التعبئة ضد العدو، تشكل حافزا قويا للإنتاج والاستخدام، وتضمن مستوى مرتفعا للحياة» حسب هاربرت ماركوز. 

هكذا غدت الدولة القومية، دولة حرب في صيغة الاستعداد لها. وبالتالي فإن للرأسمالية المنتجة للسلاح، الصوت الأعلى أيضا عند السلم، المشحون بروح الدفاع، والخوف على الأمن القومي، فتكون ميزانية السلاح في ازدياد مضطرد. وهذه الدولة المدججة بالسلاح حتى درجة النووي، في القرن الحادي والعشرين، تتحصن بأسوار العصور الوسطى، في مواجهة التهديد الديموغرافي، من خلال ما يدعى بالهجرة غير الشرعية، والإرهاب الدولي. وهذا مما جعل ماكرون الرئيس الفرنسي مثلا، يجنح أثناء الانتخابات، نحو اليمين المتطرف، فساهم وهو يعمل على استقطابه إلى تقويته، ويرى بعض المتابعين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، أن الحرب الروسية في أوكرانيا، أسهمت في حصوله للمرة الثانية على رئاسة البلاد.

دولة حرب النجوم الدولة المهددة، التي الأمن فيها المهمة الرئيسة، ما يوظف كل المجتمع لها، فتشحن الميديا المجتمع، وتتعهد السينما بترويج البطل المقاتل، فيكون النموذج المحارب في كل الأحوال، وحتى النشيد القومي، ما يكون دائما مضمونه الإشادة بالدولة المحاربة، وبالأفراد الذين يذودون عنها. فأيديولوجيا هذه الدولة الحرب، ما خلال القرن العشرين، تجسدت في حربين كبريين وبعدهما الحرب الباردة، ما كانت ساخنة عبر الحروب بالوكالة.

الحرب بالوكالة، قامت بتصدير الحرب، إلى دول المستعمرات السابقة وما في حكمها، وبتصدير السلاح وتجريبه في تلك الحروب، ما أخذت فترة ما بعد الحرب الكبرى الثانية، صيغة حرب أيديولوجية، بين رؤى المعسكرين الغربي والشرقي، وقد دفعت تلك المجتمعات البديلة، من خلال تلك الحروب بالوكالة ثمنا غاليا، وما زالت حتى اللحظة، تدفع ذلكم الثمن المتفاقم، وتخوض تلك الحرب.

إذا لقد كانت هذه الدول وما زالت دول حرب، بداعي مبرز ولا شك فيه، المحافظة على أمن الدولة. وكما أن دول المركز في العالم دول حرب، فقد عملت على نقل جنون الأمن، إلى غيرها من دول العالم، خاصة المستعمرات السابقة. فأمست الدولة مؤسسة أمنية، تحشد كل وسائلها، لاعتبار أن العدو على الأبواب، وغدت الحدود هذه الأبواب. وفي داخل الدولة الأمنية تلك، تقوم السلطة الحاكمة، باعتبار كل ما يهددها، يهدد أمن الدولة، وتلك السلطة هي من بيدها ميزان وقانون أمن الدولة. ولدواعٍ أمنية، فإن شعار الدولة تلك: إن لم يكن لديك عدوا فاصنعه، لأنه من دواعي المحافظة على الدولة، ما لو كانت مهددة، فستكون في حالة تأهب دائما، للحرب والعدوان الممكنين.

دولة جنون الأمن، تروج للخوف وتختلقه، فهو ما يقوي السلطة الحاكمة في هذه الدولة، وفي «البلدان النامية، فإن هذه الدولة على وشك الاستسلام، إما لشكل جديد من الاستعمار الجديد، وما أكثر أنواع الاستعمار، وإما لنظام من التراكم البدائي، ذي طابع إرهابي، بهذا القدر أو ذاك»، كما يزعم هاربرت ماركوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد)، الصادر منذ أكثر من نصف قرن.

إن أية مقاربة للأحداث اليوم، تبين أن أوروبا أيضا، باتت قارة حرب وهجرة، وأنها كمركز للعالم حتى الساعة، تهدد العالم على الأقل بحروب اقتصادية، وهي أقسى وأكثر عنفا. ومن هذا فإن الدول النامية، ليست مهددة بنوع من الاستعمار الجديد، فالحرب الاقتصادية، مضافة إلى مفاعيل الأوزن والكورونا، كافية بضربة لا حد لها. وإذا الحروب الأهلية، تجتاح بعض من تلك البلدان، فإنني أظن أن العالم الذي يتقلب ولا يتغير، قادم على مرحلة أخطر: محلك سر.