Atwasat

عن الوجع والسهريات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 25 أبريل 2022, 02:14 مساء
محمد عقيلة العمامي

كان الأمر محزناً حد الوجع، ولكن الزمن يعالج الحزن ويشفي الوجع، تماماً مثلما يقول الإنجليز «Time is a healer»، أو كما يقول الشاعر أبوالعلاء المعري: «إن حُزناً في ساعة الموت أضعاف * سرورفي ساعة الميلاد»، فالفقد والغياب والرحيل مسميات تعددت والوجع واحد. وصولي إلى بنغازي بعد غيبة لم تكن قصيرة، ولقاء الأهل والرفاق والأصدقاء ومشاركتهم الوجدانية بددت غمة الحزن، وتعاطف الناس ممن يعرفون الراحلة العزيزة، أو حتى أولئك الذين لا يعرفونها أكدت، ورسخت قناعاتي أن الوطن ليس مجرد مكان، وإنما الناس الذين يشاركوننا فيه.

أيام «سهريات» الفراق الليبية، والتفاف الأصدقاء، حول أسرة الفقيد أمر لا ينتبه المرء لقيمته وأهميته إلا من فقد عزيزاً عليه. أعترف أنها عادة إنسانية لا أتمنى أن نتخلى عنها، على الرغم مما يقال عنها من بذخ، ولكنه يهون لو انتبهنا لما تحققه من تقارب وجداني إنساني، سريعاً ما يصبح مؤتمراً اجتماعياً ناجحاً يحقق دون تخطيط مسبق لتقارب حقيقي بين أبناء الوطن.

لقد انتبهت، هذه المرة، يمكن بحكم السن، أو بحكم غيابي الطويل عن أهلي ورفاقي، إلى أن «السهريات» مناسبة تبتديء بموانسة اجتماعية، وتتغير بتواصل الأيام إلى مؤتمر اجتماعي، وطني خير، نستمع فيه إلى بعضنا البعض، ونناقش أمورنا ونتوافق ونتصالح ونزيد من متعة الإنصات والنقاش الهاديء، ولعلني لا أبالغ إن قلت أن مثل هذه (السهريات) تفيدنا كثيراً في معرفة أساليب النقاش الهاديء بحكم المناسبة، وبالتالي لا ينفض تجمع من رفاق أو أقارب من دون قناعة بأهمية الهدوء والإنصات، وفوق ذلك كسب ومعرفة أصدقاء جدد. إنه ليس عزاءً، ولكنه مؤتمر للخير والتوافق والانتباه للكثير من أمور الدين والدنيا.

كانت أيام مؤاساة دافئة راقية منحتني ثقة كاملة بأن الليبيين لن تطول خلافاتهم، وأنهم يعرفون جيداً كيف يعالجون أمورهم ويتغلبون على محنتهم. أنا ممتن جداً لكل من واساني وأسرتي، وفوق ذلك شارك في استبدال حزن الفراق والرحيل، بمؤتمر ناجح أكد لي أن أبناء وطني سوف يتجاوزون خلافاتهم وينتصرون على الرغم من الكثير من الانتقادات لمناحي الأمور الحياتية المتعبة التي ليست متأصلة، وبالتالي يسهل التخلص منها، فأول خطوات الشفاء هو تشخيص الحالة وهي أمر لا يختلفون كثيراً عليه. وعندما ينتصف الليل ويتفرق الرفاق، ويعاندني النوم، إما بسبب ذكريات المكان واسترجاع ذكريات الفقيدة ومعالجتها لأمور الأسرة الحياتية اليومية، وعلاقاتها بأبنائها، وصديقاتها، وجيرانها، أو التفكير في النصف الآخر من الأسرة الذي لم يتمكن من المشاركة في المؤاساة، لأسباب قاهرة، أو بسبب التدبر فيما سمعته خلال مؤتمر تلك الليلة، أو بسبب الشاي والقهوة، التي لا يتوقف احتساؤها، عندها لا أجد ملجأ سوى مكتبتي؛ فقد أجد ما قد يعينني على الاسترخاء والنوم.

1-الدواميس

هذه المرة وجدتني أقف أمام ركن أحتفظ فيه بكتب لم تقرأ، وللأسف الشديد انتبهت إلى أن الكثير منها لكتاب، أو بمعنى أدق، لعدد من أصدقائي الكتاب الليبيين! وتذكرت فقرة كتبها الراحل حمد المسماري، قال فيها ما معناه أن الكتاب الليبيين لا يقرأون لبعضهم البعض، واكتشفت أن معظم الكتاب العرب، هم أيضاً لا يختلفون عن الليبيين. والحقيقة أنني فعلاً سهوتُ عن قراءة العديد من أعمال كتابنا الليبيين، ولكن كثيرين منهم لم يغب عني ما يكتبون، في الصحف والمجلات، منهم صديقي الدكتور محمد المفتي، ومع ذلك اكتشفت أنني لم أقرأ له كتاب (دواميس) ولقد التقطته لأنني لا أعرف معنى عنوان الكتاب، وهذا ما جعلني أتعجب كيف أني لم أره من قبل، علماً بأنه من بين مقالاته قراءة نقدية لروايتي (ورده بنت شفيق) وانتبهت إلى كم هو قاريء متمكن وأنه قرأها بعيوني.

فماذا حدث؟ أحسست بخجل من تقصيري، خصوصاً من بعد تذكر أنه وصلني الكثير من الأعمال الليبية التي نشرها مجلس الثقافة العام، وسريعاً ما قررت أن أتوقف عن مواصلة كتابتي عن سيرة المكان، وأن أقرأ مالم أقرأ من كتابات كل ما يقع في يدي مما كتب الليبيون وأتناولها من وجهة نظري وأكتبها بعون الله أسبوعياً، فلعل الكثير من كتابنا، مثلي، غفلوا عن قراءة كتابات رفاقهم.

سهل المفتي الممتنع يتلخص في قدرته الفائقة على تقديم المعلومة المفيدة، علمية كانت أو تاريخية، أو نقدية من خلال سلاسة سرد ممتع، بلا إطناب، أو تقصير أو غموض، هذه القدرة التي انتبهت إليها منذ صدور كتابه المفيد والمهم ( توطين العلم أولاً) الذي صدر منذ العام 2004، وهو من الكتب التي بمقدور المرء أن يحملها مباشرة من عدة مواقع، والذي قرأت عنه تعليقاً من ناقد عربي يقول أن الأمر لو بيده، لجعله من مقررات المنهج الدراسي الثانوي للمدارس العربية، وهو بالفعل يستحق أن يكون كذلك. هذا السهل المبسط، هو ما جعلني ألتقط كتابه (دواميس)، التي لم أكن أعرف معناها قبل مقالته، فهي تعني الكهوف التي حفرها الإنسان، وهي شائعة في الجبل الغربي، وكانت تستغل لتخزين الغلال والفواكه المجففة، لعل التين المجفف، أو (الشريح) مثلما نسميه محلياً من أهم ما يخزن في تلك الدواميس.

ثم يختتم مقدمة كتابه التي أساسها على هذه الدواميس، ويفيدنا بأن دواميس عقله خزنت مقالات عن قراءاته لأقلام ليبية يرى أن موهبتها «لا تقل عن مواهب أدباء على الساحتين العربية والعالمية»! فقررت في الحال قراءتها وتلخيص وإضافة ماقد يلقي ضوءًا على بعض ما انتقاه من دواميسه، وهو ما سوف نستهل به مقالات تعيننا على أن نقرأ لبعضنا البعض!