Atwasat

مأساة النيهوم (1)

سالم الكبتي الأربعاء 20 أبريل 2022, 11:52 صباحا
سالم الكبتي

(أيها العائد في ليل النهار
لاتدق الباب . فالباب جدار
إنه القش الذي بعثر من الوجه كذرات الغبار
إنه القش المثار)
حسب الشيخ جعفر

يقارب العام على الانتصاف في موسمه. ويمر على ولادة الصادق النيهوم خمسة وثمانون عاما. كان رحل عام 1994.
والأرقام في حياته تتوالى.. 1937 حيث ولد في سوق الحشيش ببنغازي عام هطل فيه المطر بلا انقطاع وكان الشتاء قاسيا خلاله ثم فاض الموسم بالخيرات. وكان نصف الشباب الليبي هناك.. في براري الحبشة يكتوي بلظى حرب أخرى يقودها الطليان باسم المسيح وصنع الحضارة ضد الأحباش اليتامى ويعود بعضهم لاحقا مشوه الوجه مقطوع الأوصال.

تلك الأيام شهدت قدوم النيهوم إلى الدنيا. ترحل والدته مبروكة الصنهاجي لحظة الولادة ويقضي أعوام طفولته الأولى في سيدي حسين مع أخواله. البيوت القديمة والأزقة والسباخ والمقبرة التي توقف الدفن فيها منذ عشر سنوات مضت (1928)، كانت تربض أيضا على بقايا مقابر برينتشي القديمة الممتدة إلى المفلوقة (السيلس الآن) فيما تبدو للرائي أطراف المدينة القريبة جدا بالعين المجردة. ستظل بنغازي حصيلة غالية في ذهن النيهوم وجزءا من عالمه الذي يطوف به الدنيا دون أن تفارقه على الإطلاق.

1945 نهاية الحرب في العالم. ومنذ سنتين وصلت إلينا الإدارات العسكرية: البريطانية في برقة وطرابلس والفرنسية في فزان القصية في جوف الصحراء. يعود الطفل النيهوم ذو الثماني سنوات إلى منزل العائلة. وبنغازي يزحف الحزن فوق جدرانها وعبر أزقتها وشوارعها. الظلام يلفها طوال النهار. آثار ما بعد الحرب والخرائب. كسرة الخبز اليابسة وقطرة الزيت تكاد تكون الغذاء اليومي وكان الشاي يعد بالشاقوريا والتمر، وذلك كله ترف في بعض الأحيان يحسب لمن يحصل عليه بين أيام وأخرى. بين نهار وليال. بين حلم ويأس مرير. قلة المدارس والمتعلمين. لم يترك الطليان أجيالا ليبية متعلمة بالمعنى المتعارف عليه وليبيا تظل كرة تتقاذفها أرجل الكبار والريح العاتية. الجوع والمرض وظروف الحياة الصعبة كل لحظة.. ولاشيء آخر سوى جيل ما بعد الحرب يقف من العتمة لكي يتعلم الحرف والكلمة في خلاوي المساجد أو الزوايا ويشق طريقه عبر الدروب بالأدعية والبركة.

كان (الفقي) معلما ومربيا ومؤسسة مقدسة وحدها بين الآخرين. كلمة منه تفتح أو تغلق أي أمر أمام العقول البسيطة وكان النيهوم ضمن صفوف هذا الجيل الليبي الذي مر بالرجل المؤسسة. المدارس المتهالكة والأجراس الصدئة والمعلمون الليبيون والمصريون والأحلام البعيدة وحزمة المخزون. مدرسة الأمير والثانوية ثم الجامعة التي تأسست بعد الاستقلال للسير بالوطن نحو التحديث والمعاصرة. لم تكن ثمة جامعة من قبل في ليبيا. مؤسسات أخرى تنهض وتغمر النيهوم في عوالمها مع جيله بديلا عن مؤسسة الفقي المنتشرة في كل الأماكن من المدينة. سيرفض النيهوم في أعوام لاحقة هذا الفقي ولايعترف به. يواجهه من بعيد ويسخر من أدواته وأساليبه. ويلوح النيهوم وسط هذه الحصيلة وتلك الذكريات بعد تجربة معايشتها في الداخل ثم الغربة والعزلة في الخارج إلى حد بعيد.. يلوح بعد هذا كله (شخصية مثقفة) و (وفلتة من فلتات المجتمع). يعيش هناك بعيدا لكنه يقترب من الواقع هنا أكثر ربما من المثقف أو الكاتب الموجود في الداخل. يظل النيهوم بإحساسه ووعيه المبكر وكأنه في ليبيا لم يغادرها ولم يرحل عن تخلفها أو نموها ويحاول أن يجد طريقا بفكره ومعرفته للآخرين.

وفي نقاش شهير بين الكاتبين كامل المقهور ورشاد الهوني في يناير 1967 حول الفنان والبيئة والقضايا والصادق النيهوم وسنوات غربته.. طغى على المقهور إحساس بالخوف من أن يبتعد النيهوم عن الواقع الليبي عبر غيابه الطويل عن بلده وعبر عزلته الكاملة عن الأرضية التي ينبت فيها مستقبل الوطن.

وكان هذا الرأي من المقهور فيه الكثير من الحقيقة خلال النقاش الذي يدور بين عملاقين ليبيين لهما الموقف والأصالة والصدق والانتماء. لكن الهوني برز في تفكيره سؤال بعد انتهاء النقاش الجميل.. ماذا أدى الكاتب الذي يعايش جميع القضايا في بلادنا؟! ويجيب على نفسه بالقول: إن الكاتب الليبي غير واضح وغير موجود بالمفهوم الكامل للكاتب وغير مؤثر في مختلف الاتجاهات القائمة ضاعت ملامحه واختلت موازينه ووقع في فخ الوظيفة واشترك في معركة الكسب والادخار وتحول إلى آلة ناسخة تتساقط منها أوراق مزيفة!

ثم يقول بعد النقاش أيضا وذهنه لا يفارق صديقه النيهوم: (لعله الواقع وحده هو الذي يحدد وجود الكاتب هنا من عدمه.. فالارتباط بالبيئة ومعايشة الظروف والاحتكاك بالأحداث واستعمال أساليب النقل والتعبير.. كل ذلك ضروري لكاتب وجد نفسه وأصر على استخدام إمكانياته ولم تستطع ظروف حياته أن تفسد إبداعه أو تهلهل مفاهيمه كما حدث للكاتب في بلادنا وحين كتب لي الصادق يوما معبرا عن رغبته في العودة نهض في أعماقي خوف شديد على موهبته الفذة ونبوغه العظيم وإبداعه المتواصل الذي لايتوقف. إنه بعيد عن مجتمعه.. هذا صحيح، ولكن الابتعاد في حد ذاته وسيلة طيبة للحفاظ على كنوزه من أن يفترسها الملل أو تمزقها أصابع الميوعة). ويلخص الصادق ويعرفه بعبارات فيها كل الفهم لتجربته.. (إن صادق هو أحد شباب ليبيا الذين فتحوا عيونهم على الفترة الزمنية الواقعة بين عامي 1945 _1955 وهي فترة لن ينساها أحد منهم لأنها اكتظت بكل النتائج وكل الواقع المثخن بالجراح وكل الاندهاش الناتج عن المفاجأة وكل الصخور الناتئة في الطريق وكل الحيرة والضيق والخوف الذي اتسمت به خطواتنا تلك الأيام. حصيلة الصادق كواحد من شباب تلك الفترة.. حصيلة ضخمة تتواثب أمام عينيه وتضطرم بين جوانحه وتحوم حوله باستمرار ودون انقطاع وحصيلته كأديب وكاتب مثقف تتضخم وتتضاعف آلاف المرات عبر حساسيته الخاصة وقدرته على الاستيعاب وحصيلته كإنسان مغترب تنطلق من عقالها ومن الكوة السحيقة داخل أعماقه.) ثم يصف الحالة النيهومية أكثر بكل وعي: (إن حياة الدراسة التي يعيشها الصادق تعطيه فرصة عظيمة للرقابة الشديدة المتفحصة وتمنحه وقتا ثمينا للاختبار وتملأ قلبه بالشوق والحب لذلك المجتمع الذي تحول بعض أفراده الطيبين إلى محاربين أفذاذ في معركة القرش.. حين انزلقت من بين أيديهم أسلحتهم القديمة الجادة وبقيت تلك الارتعاشة الملهوفة الصفراء المشتاقة إلى السرقة من أي مكان في سباق مستميت مع بقية الأوباش واللصوص)!!

ومضى النيهوم في طريقه ولم يعد إلى بلاده. كان يريد كما يلخص تجربته في الدرجة الأولى كيف يستعمل كلماته بحرية أكثر وكيف يعطيها كل ما تحتاج إليه من الضوء وحاول أن يصرف انتباهه إلى تاريخ اللغة نفسه وبدا هذا المنهج له بعد فترة قصيرة محدودا على نحو ما. كان منهجا يمده بكل شئ عن الكلمة التي يرغب في البحث عنها ولكنه لم يستطع أن ينفذ من خلالها إلى حقيقة المشكلة ذاتها واكتشف أنه مازال غير قادر على إيجاد منهج أكاديمي يمكن قبوله وقد رأى أيضا أن يتمتع بالصبر وأن (لا يذهب للجحيم) كما يقول. إنه ظل ينتظر لدى الآخرين الاستعداد للمضي إلى خطوته التالية. وحدد موقفه منذ البداية بأن ما سيقوله في الأيام القادمة يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط (هذه تجربتي أنا). ولكل الحق في أن يقول تجربته على نحو ما.

ورغم ذلك.. رغم ما قاله النيهوم خطأ أو صوابا عبر تجربته فمازالت في ذكرى ميلاده الخامسة والثمانين تطل علينا لقاءات وكتابات تتحدث عنه وعن موقعه في الحياة الفكرية العربية المعاصرة.. مفعمة على الدوام بالتكرار وسوء الفهم لتجربته التي يملكها دون سواه. وتقع في تلك اللقاءات والكتابات التشويشات والطنين مثل الذباب. تلك مأساة النيهوم المحزنة. يعيش غيره على النيل منه والحقد عليه بلا توقف!