Atwasat

27- تهاليل المعارضة فرار ورحيل

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 أبريل 2022, 04:56 مساء
محمد عقيلة العمامي

السيد محمد أحمد العبارة، الذي حدثتكم عنه في الحلقة السابقة، قدمه لي أخي وصديقي عبدالمجيد الدرسي، خاطباً لشقيقة زوجتي، وتم الزواج على خير، وسريعاً ما أصبح صديقاً عزيزاً، ومن ضمن معارفي ورفاقي. سنة 1976 اقترح أن نؤسس مصنعاً للفرش، واتصلنا ببعض الأسماء التي كانت لها سمعة تجارية وصناعية بارزة، وسريعاً ما أسسنا شركة لهذا المشروع، وذهبنا إلى بلجيكا معاً رفقة صديقنا محمد إبراهيم السوسي، فلقد كانت حينها أشهر مصنعي الفرش وآلاته. إحدى الشركات رحبت بالمشروع، وطلبت منحها أياماً لدراسته، ولكنها في الواقع كانت تريد أن تعرف حجم وسمعة مجلس الإدارة، وهذا ما عرفناه من مدير أحد المصارف الليبية. وسريعاً ما اتصلوا بنا، مرحبين بالفكرة لدرجة أنهم اقترحوا أن نجهز لهم الأرض بمواصفاتهم فقط، ويقومون بتصدير آلاتهم، ويشرفون على الإنتاج، وتكون مسؤوليتنا في توفير العمالة اليدوية والتسويق المحلي فقط، أما الخارجي فيقومون هم به، فلقد كان عرضهم معداً على أساس تصدير المنتج إلى أفريقيا. كانوا أسسوا فكرتهم بسبب انتباههم إلى خبرة محمد العبارة في مجال صناعة النسيج، وكان بالفعل يفهم هذه الصنعة ويتابع في فنونها وينفق عليها. اهتمامه جعله يتجه إلى الغرب والاستعانة بعمالة فنية من بريطانيا، ولو قدر لمسيرته في ذلك المجال لفتحت أبواب رزق للعديد من الليبيين.

ولكن ما أن عدنا إلى طرابلس حتى أخطرنا طيب الذكر المرحوم أحمد المرتضي، الذي كان حينها وكيلاً لوزارة الصناعة، التريث لأنه ثمة تحضيرات لقرارات تأميم المصانع! وكان الأمر مضحكاً إلى حد كبير، فلم لم يكن في ليبيا سوى عدد لا يذكر من مصانع بسيطة وفوق ذلك عمالتها وافدة!، فبدا الأمر كما لو أن الدولة تريد أن تأخذ أرزاق الناس، وليس لتمكين الكادحين الليبيين لمشاركة أصحاب المال والخبرة. واجتمعنا عن كيفية مواجهة هذا الحال، واقترح أحدنا أن نستمر في مشروعنا ونرفع تكلفة الآلات وبالتالي عندما يتقرر التأميم يكون عليهم تسديد البنوك التي وافقت على إقراضنا، ونستفيد نحن بما يضاف على الأسعار، غير أن محمد إبراهيم السوسي رئيس مجلس الإدارة رفض الفكرة، وقال هذه سرقة وهو لا يوافق عليها، وعبثاً حاول المجلس إقناعه ولكنه لم يطاوعهم، أو بمعنى أصح لم يطاوعنا! وتواصلت الأيام واستمرت صداقتنا وكان ما ذكرت مجرد جزء من مآثر ومواقف استحق في تقديري أن تكتب عنه مثلما مثلما قال (بنيامين فرانكلين).

السيد محمد العبارة، كان له رأي آخر نفذه، وغادر ليبيا، ومن مدخراته ابتاع مصنعاً للستائر، وشيد مصنعه في اليونان! كان المشروع في ذهنه لتشييده في ليبيا ولكن ما حدث، أرغمه على السفر به إلى خارج البلاد، والعجيب أنه بعدما فشلت مصانع النسيج ولم تعد قادرة على تغطية السوق المحلية، أصبح يُصنع هذه الأردية في اليونان، وهي التي تلبس في ليبيا فقط، وحتى ذلك الرداء التونسي المشابه للرداء الليبي يختلف عنه من حيث المقاسات. أصبحت أردية أمهاتنا تصنع في اليونان بأيدي يونانية وتصل ليبيا مهربة من مختلف الجهات. مثل هذه المصائب كانت جراء تأميم لم تكن ليبيا في حاجة إليه.

طوال فترة بقاء العبارة في اليونان كان سنداً للكثيرين الذين ضاقت بهم السبل، وعندما بدأت مصيبة التصفيات الجسدية، اختفى وترك مصنعه لإدارة يونانية، بعدما قامت المصالحات تكفل السيد محمد المهدي الفرجاني، بحكم وظيفته في الأمن الخارجي، بإحضاره وضمان عودته وخروجه من ليبيا هو، وأيضاً صديقيه عبدالعزيز العلام، يوسف إبراهيم عقيلة. وجاءوا إلى طرابلس مكفولاً لهم سبل الدخول والخروج وممارسة أعمالهم في الخارج، ولكن الأمر لم يطل حتى قبض عليه في واحدة من زياراته ولو لم يتدخل السيد الفرجاني لظل طويلاً في السجن، وكانت محاولة اغتيال يوسف عقيلة الذي نجا من الموت بأعجوبة، وتدخل الفرجاني ثانية وانتهى الأمر بعودة يوسف عقيلة من بعد أن تكفلت الدولة بعلاجه وعاد إلى بنغازي. أما محمد العبارة فقد نقل مصنعه إلى مصر وما زال المصنع يعمل على ترابها، تراب الدولة التي قامت بها تأميمات حقيقية، وهي التي ألهبت حماس المرحوم معمر القذافي وقام بتنفيذ التأميم في ليبيا، فقضى على صناعات كانت قائمة وناجحة منذ الخمسينيات. وتفشل الصناعات التي أقامها النظام لأسباب كثيرة لعل أهمها سلطة رجال الظل والعمولات.

لم تكن ثمة حاجة للتأميمات ولا هناك حاجة لقيام مصانع لا نملك موادها الأولية، ولا عمالة تدير هذه المصانع، وفوق ذلك كله، لم تكن ثمة حاجة للتصفيات الجسدية لمن عارض النظام، خصوصاً لأولئك الذين لم يشهروا سلاحاً ولا هدموا مصنعاً أو ثكنة أو منزلاً.

هذه الأخطاء منحت الفرصة إلى الذين يدّعون أنهم أدوات الثورة وحماتها فتسيدوا الموقف وعالجوه بأخطاء فادحة. تراكمات هذه الأخطاء، وهي ما وظفها المتربصون للقضاء على النظام منذ أن جاهر بالاتحاد الأفريقي، وديناره الذي سيحل محل الدولار! ثم وقع القائد قرار نهاية النظام بتمزيق وثيقة الأمم المتحدة وقذفها على وزير خارجيته!

معذرة فلقد انطلقت سريعاً إلى النهاية من دون أن نتحدث بالتفصيل عما حدث من بدايات التأميم مروراً بنتائجه الكارثية، إلى شطحات صناعية، أنفق عليها الملايين، انتهت في جيوب الحذاق. مشاريع كان بعضها مضحكاً حد البكاء.

لعل ما حدث في مشروع أقيم على سد عين كعام يبرز، يعطينا فكرة عن هذا العبث والارتجال في تنفيذ مشاريع مضحكة. على بحيرة سد هذا المشروع: لقد اقترح مهندس زراعي من معارفي، على مهندس المشروع أن تصبح البحيرة مشروع مزرعة سمكية، وكانت فكرة جيدة، واستوردت يرقات الأسماك، من الدنمارك، وهي التي اصطلح على تسميتها بـ(الزريعة)، ونجحت الفكرة إلى حد ما، فاقترح عليهم أن يربى البط أيضاً في تلك البحيرة، واعتمد المشروع واستورد البط، الذي سريعاً ما أصبح يصطاد يرقات الأسماك، فاكتنز سريعا، وأصبح البط وجبة عشاء فاخرة للخفراء والمهندسين المشرفين المقيمين! العجيب أن المهندسين الشطار كانوا من دفعة واحدة، ومن مدينة واحدة وأبناء عمومة، وبسبب (الظلم والقهر) في ليبيا هاجروا إلى الدنمارك ومن بعدها إلى كندا واستقروا هناك!