Atwasat

جنون القمح!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 29 مارس 2022, 10:14 صباحا
أحمد الفيتوري

كنت صبيا غرا، وكانت حربا أولى في عمري الأول، الناس من خشيتها التهمت السوق، ودست في بيوتها زادها، ودكان أبي المحشور بالدقيق والبضائع الأخرى، بات محشورا بالناس وكأنها القارعة. الناس في هلع، والصبية كمثلي، يعيدون تمثيل ما شاهدوه في السينما، من معارك بين "الهنديان ،والعيل قايد العصابة"، أما الكبار، فقد صرفوا وقتهم ومالهم، في متابعة الحرب وأخذ الحيطة بشراء ما قدروا عليه.

كانت الحرب بعيدة، لكن الهلع انبثق في القلوب، وكنا نتطلع إلى السماء مربض نسور العرب، وكصبية كلما مرّ طير خلناه نسر العروبة، أما أمهاتنا فقد متن من هلع، بعد أن بتن في جوع وخوف. المخابز لم يعد لديها دقيق للخبز، لذا عدنا إلى سنوات خلت، وأخذت البيوت تعجن خبزها من نخالة أوما شابه، والصبية، من على رؤوسهم أطباق العجين، يتداعكون على المخابز.

مثلما عاد الصبية إلى المخابز، عاد الكبار إلى التجمع. تركوا أشغالهم، كأنهم يلعبون "السيزة"، تحلقوا حول راديو هنا وهنا وهناك وهناك. تعطلت المدارس، كما تعطلت العقول: جاءنا النبأ التالي... فتتهلل الأفواه وتكبر.

انشغل الكبار بمتابعة أنباء الحرب، وهلعت النساء، فدفعنا نحن الصبية ثمن ذلك بالكد والتعب، مرة عند المخابز، مرة يطوحنا حماس الكبار، مرة أخرى نحن مندهشون في بلاهة، من تداعك الكبار لتخزين كل شيء يطالون، حتى أن أبي ذات مرة، قفل عليّ مخزن البيت، باعتباري كيس دقيق!.

جنون القمح رهين الحرب، ليس كما الجفاف والمحل، تصاب به الدول قبل الأفراد، من يتحولون لقطيع دون عقل أو عقال. فالدول فجأة تتحول إلى الملك العارى، منها ما يستبق نتائج الحرب فيرفع الأسعار، ومنها ما يخطر على باله بغتة التقنين والإرشاد، الدول كدولنا، مترهلة بالتضخم المرض العضال، عظامها كسيحة، لذا الحرب البعيدة، كما صوت زمهرير بالنسبة لتلكم الدول.

منذ ولدت، سمعت بما أصاب البلاد من جوع، من أثر حرب أوروبا الكبرى الثانية. هناك رواية لكاتب ليبي فيها: أن في تلك الحرب، أكل البشر لحم البشر من جوع، بعد أن أكلهم الخوف. ومنذها أمسى لنا دول، وشعارها كما شعار العقيد معمر القذافي: لا حرية لشعب يأكل من وراء البحر. لكن الشعار يبقى شعارا، حتى تؤوب حرب هنا أو هناك، آنئذٍ يستيقظ النوام، فقد أصابهم جنون القمح.

وهذه حادثة واقعة: دولة من هاته الدول، ذات مرة هلعت بعد أن أصابها ذا الجنون، على عجل ظهرت لها إرادة الأمن الغذائي، دون تفكير وتمحيص، فالأمن أمن وليس شعارا. سارعت الحكومة بشراء الغالي ذهب الطعام/القمح، عندما رست السفن، حُملت دواب العصر/الشاحنات، ما اندفع سائقوها نحو صوامع الحبوب، مخالفين قوانين تحديد السرعة، في الشوارع الضيقة غير المسلفتة، المسئولون عند فتح الصوامع، سقطوا صرعى من ذهول: الصوامع تغص بالقمح.

وتحت طائلة جنون القمح، كثيرا ما سمعت أو طالعت، عن مُكنة أن يكون السودان "سلة خبز العرب"، ذلك ما يشيعه، في سبعينيات القرن الماضى، القوميون العرب، من همّ في السلطة، ومن منهم في سجون هاتيك السلطة. ومن أثر حلم اليقظة هذا!، وافقت دون تردد، لما عرض عليّ عند مقتبل العمر، المشاركة كصحفي بجريدة "الإسبوع الثقافي الليبية"، في ورشة "عن الثقافة والزراعة" تعقدها الجامعة العربية في السودان. ومن دوافع قبولي أيضا!، سخطي على الاتحاد السوفييتي، دولة الاشتراكية الكبرى، من تبتزها دول الرأسمالية الكبرى بالقمح، ما يستورده الاتحاد السوفيتي من الإمبريالية العالمية!. لم أستغرب: أن لم أسمع في تلك الورشة عن القمح، كما لم أره البتة، في كل الحقول الجمة ما زُرنا.

كنت شابا غرا، أقرأ المحفوظات، في كتب مدرسية وجامعية، ومراكز بحثية وما في حكمها، عن أننا مجتمعات زراعية، فأنفعل وأغطس في حلم يقظة، أن نكون المجتمع الصناعي في التو والساعة. ولم أكن أستسيغ ما كتب يوسف القويري، عن أننا المجتمع الصناعي، في كتابه الصادر سنة 1965م "من مفكرة رجل لم يولد"، مفكرة هذا الرجل، تحتوي على يومياته سنة 2565م.

أما لِمََ كنتُ غرا؟، فلأننا لم نكن حتى مجتمعا زراعيا، حين كنت أجوب أصقاع السودان، ومديرية الجزيرة المحاطة بالنيل. ما هي غارقة بالماء من كل حدب وصوب، لا زرع ولا ضرع لها، ما بالك وبلادي ليبيا، بلاد الصحراء الكبرى، حيث الماء كما السراب، ما جعل الإعلام الغربي يكنيها بأمبراطورية الرمل.