Atwasat

26- من يستحقون أن يكتب عنهم؟

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 مارس 2022, 10:39 صباحا
محمد عقيلة العمامي


" إذا أردت أن يخلد ذكرك بين الناس، ولا ينسوك حال موتك وتعفنك، فإما أن تكتب مايستحق القراءة أو تعمل ما يستحق أن يكتب.. "
(بنيامين فرانكلين)

لقد أكرمني الله بتوأصل صداقة وصلت حتى الآن، حد التآخي مع شخصيات عديدة أحدها كتب ما يستحق القراءة ، وآخرون عملوا ما يستحقون أن يكتب عنهم. لقد وهبني الله رفاقاا جيدين كثيرين، يصعب حصرهم، فهم بحجم وطن، غير أن ثلاثة منهم أسسوا من قناعاتهم، وسلوكهم قاعدة رأيت من خلالها أن يكونوا من أولئك الذين يستحقون أن يكتب عنهم.

رفاقي وجيلي يعلمون أنني سوف أنتقي خليفة الفاخري، لأنني كتبت الكثير عنه ووثقته، وهناك توافق على شخصيته التي تستحق أن تُخلد. ذلك لا يعني أنني لم أعرف كثيرين يستحقون أن يخلدوا، بسبب كتاباتهم مثل صادق النيهوم ومحمد على الشويهدي، ومحمد الشلطامي، والدكتورمحمد المفتي، وعبدالكريم الدناع، وغيرهم كثيرين، ولكن معرفتي لجوانب خليفة الفاخري كافة تجعلني أتخذ منه نموذجا مشرفا، لأنه لا يفرق أبدا بين ما يكتبه وبين ما يعايشة في حياته اليومية. ناهيك عن مثالية تفوق الوصف، وتلك أمور يعرفها رفاقه الخُلص.

يختلف الفاخري عني في أمر جوهري، هي ملكته في معرفة الناس، وهي غالبا صائبة وعميقة جدا. أنا أعرف أن بعض أصدقائنا المشتركين أساؤوا إليه، ولكنه لم يلغهم من حياته أو يتجاهلهم، لأن عمق معرفته لهم جعلته يتعامل مع الإساءة كما لو أنها مسألة عابرة، وتعليله بسيط للغاية، وهو أن عمق معرفتك للناس واقترابك منهم أو الابتعاد عنهم تكون عميقة إن تعلمت كيف تنظر إليهم وتتعامل معهم بعيونهم، وليس بعيونك! إن كانت رؤيتهم إنسانية جدا تأكد أنهم لا يقصدون ما تراه إساءة، وتأكد أن الأيام سوف تثبت لك ذلك، فأنت عندما تراه بعيونه سوف تكتشف أن الإساءة لم تكن مثلما رأيتها، أو فهمتها.

( يُروى عن ابن سيرين أنه قال: "إذا بلغك عن أخيك شىء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد له عذرا فقل لعل له عذرًا ". وقال جعفر بن محمد: "إذا بلغك عن أخيك الشىء تنكره فالتمس له عذرا، فإن أصبته، وإلا، قل لعل له عذرًا لا أعرفه"، لا نحكم على الناس بمجرد شهوة في أنفسنا. خالف نفسك!. فمن حسن ظنه طاب عيشه).

رؤيته هذه جعلته لسنوات يحاول بمثابرة عجيبة ليقنعني أنني مخطيء، بشأن أحد الأصدقاء، ولم أقتنع تماما برأيه إلاّ بعد وفاته، ومواقفه ومعاملاته معي ومع خليفة وأسرته كما لو أنه لم يرحل!

أما الذين " عملوا " – من رفاقي – ما يستحقون أن يكتب فهم عديدون منهم : محمد إبراهيم السوسي، محمد حسين كانون، مصطفى عمر الكرامي، وسيأتي يوم وأكتب عنهم ما يستحقونه ويليق بهم، وبالطبع هؤلاء عرفتهم واقتربت منهم كثيرا قبل سنة1976، وتواصلت معرفتنا حتى الليلة البارحة!

لم أضف رفاق طفولتي وصباي مثل عبد المجيد الدرسي، ومحمود شمام، باعتبار أنها علاقة ابتدأت منذ طفولتنا، ولم تنقطع حتى الليلة البارحة، أيضا.

هناك كثيرون عرفتهم في مرحلة الشباب، منهم من رحل عنا ومازالت مرارة فراقه تؤلمني، وتؤرقني، وأغلبهم مازالت علاقتي بهم وثيقة حتى الآن.

الليلة قبل البارحة، أقلقتني مشكلة، فجفاني النوم حتى الفجر، وصحوت على رنين تلفون صديقي محمد على الشويهدي، من بنغازي، وبادرني متسائلا: "أنت كويس؟" أجبته: "نعم. أنا بألف خير. هل اتصالك هذا الصباح الباكر وبتلفون مدفوع، لا علاقة له بالنت سببه هذا السؤال.." أجابني بهدوء وصدق، وأنا أعرف ذلك: "حلمت البارحة أنك متأزم جدا!" تبسمت وأجبته: "إن شاء الله خير.." لم أخبره أنه كان ثمة موضوع أقلقني كثيرا، وأنني غفوت قبيل الفجر، بالفعل متأزما للغاية!.

كيف حدث ذلك التواصل؟ وكيف أعلله؟ ولم أجد له تفسيرا. مثل هذه الحالات مرت بي أكثر من مرة ومع أصدقاء حقيقيين؛ فهل ثمة علاقة روحية تتأسس لدى المخلصين في صداقتهم؟ هل يحس أصدقائي بما أحسه نحوهم؟ يقيني أنهم كذلك، فالأرواح بالتأكيد تتجاذب وتتقارب، ويندر أن تفترق، ولكنها تتباعد وتتفارق على الرغم من ذلك.

أصدقاء كثيرون، أساءوا لي كثيرا، وربما اتهموني بسلوك أشهد الله أنني بعيد عنه، قد يكونون نظروا إلى الأمر من زاوية بعيدة عن زاويتي، قد يكونون قد فسروا ما لا يمكن تفسيره. حاولت أن افسر لهم، ولكنهم رفضوا بدرجة يصعب كثيرا تحملها، وظل عذري أنهم لم يروا ما حدث بعيوني!

لقد تأسست صداقات عجيبة مصلحية بين الليبيين، خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، وهي تلك التي انتشرت بصورة عجيبة، تأسست بين من يملكون حق التوقيع على تسهيلات المصارف، ومع من يملكون تكليفك بأعمال تنقلكم مباشرة نحو الثراء، حدث ذلك سريعا، وبمجرد ما استتب الاستقرار في ليبيا من بعد قيام ثورة سبتمبر، وكثرت المشاريع وفُتحت البنوك بتسهيلات وصلت إلى الملايين في زمن قصير جدا، ولم تشهد ليبيا مثله طوال العهد الملكي، تخلقت صدقات في تلك البيئة، وأصبحت الهدايا مبالغا فيها وبحجم المشاريع، ناهيك أنه لا أحد ينكر أنها كبيرة.

تقول (الموسوعة الحرة: تاريخ ليبيا تحت حكم معمر القذافي) أن: "... حكومة مجلس قيادة الثورة الليبية، بعد وصولها إلى السلطة، استطاعت باقتدار توجيه الأموال نحو توفير التعليم والرعاية الصحية والإسكان للجميع. أصبح التعليم الحكومي مجانيًا في البلاد والتعليم الابتدائي إلزاميًا لكلا الجنسين، وأصبحت الرعاية الطبية متاحة للشعب بدون أي تكلفة.." وتجدر الإشارة إلى أن ذلك كان في العهد الملكي أيضا، غير أن تفوق ثورة سبتمبر كان بحق في عدد البعثات الدراسية في الخارج، فلقد عاصرت خلال فترة عملي في الجامعة الليبية أن شخصا أمريكيا له مكتب في إدارة الجامعة وكانت مهمته هي مراجعة المستندات وإيجاد التخصص المطلوب للمتقدمين للدراسة بالجامعات الأمريكية، وكانت أوراقي ضمن ما قبلت، ولكنني لم أذهب لأسباب يطول شرحها.

ومن النوادر، وهي حقيقة سمعتها من أحد الذين حضروها، أن مجلس قيادة الثورة، أو على الأقل بعض أعضائه لم يدركوا تماما حجم ثراء ليبيا، فلقد سمعت حكاية من صديق أثق فيه كثيرا، كان ضمن مجموعة قابلت عضو مجلس قيادة الثورة، المرحوم امحمد المقريف، الذي كان حينها وزيرا للإسكان، بشأن صرف مبلغ لإتمام سور المدينة الجامعية، فقام بحركة عفوية ساخرة وقال لهم: "ما عندنش! ما زلنا ما سكرناش سنة .. وسعو بالكم!" وهو لم يقل ذلك خبثا، ولكنه لم يكن يعرف حقيقة حجم ثراء ليبيا! ومع ذلك قاموا بالفعل بكل ما ذكره التقرير المشار إليه.

لقد ارتفع معدل الدخل القومي للفرد في عهد القذافي إلى أكثر من 11000 دولار أمريكي، أي خامس أعلى معدل في إفريقيا. كانت هذه الزيادة في الازدهار مصاحبة بسياسة خارجية مثيرة للجدل، بالإضافة إلى قمع سياسي داخلي، تزايد ليصبح أيضا قمعا وصل حد التصفيات الجسدية في أوطان الآخرين. بدأ ذلك كله بقرارات عسكرية بتطبيق الخدمة العسكرية، ولكن الزج بمن دُربوا أشهرا لم تتجاوزأصابع اليد الواحدة في حروب بعيدة عن ليبيا، ولأسباب متعددة، في العديد من دول العالم، ألحقوا بها تأميميات لم تكن البلاد في حاجة إليها على الإطلاق، بدءا من مبدأ البيت لساكنه، والأرض ليست ملكا لأحد، والمقولتان مثاليتان، ولكن واقع الحال ومنطق التاريخ لا يوافقانهما، وكذلك تأميمات لبضعة مصانع تعد على أصابع اليد الواحدة؛ كانت في الحقيقة بداية غير موفقة وأفشلت مشاريع قائمة، وأخرى كانت في سبيلها للتنفيذ، وخنقت رأس المال الوطني، الذي لم يفكر أحد بالهجرة به نحو مصارف اوروبا. وئدت مشاريع استثمارية، في التصنيع والزراعة والبناء والتشييد في مهدهان ذلك كله كان كإشارة لبدء سباق الهجرة، التي لم يكن الليبيون يعرفونها من قبل! وسوف أورد ما يؤكد ذلك في الحلقة القادمة، فلقد كنت أحد أعضاء مشروع وئد قبل أن يبدأ.