Atwasat

25- لزوم ما لا يلزم

محمد عقيلة العمامي الإثنين 21 مارس 2022, 12:56 مساء
محمد عقيلة العمامي

يقول الكاتب أنيس منصور في كتابه (عاشوا في حياتي):
«.. أبناء الطبقة الوسطى، عندهم أحلام أبناء الطبقة الأرستقراطية، وعندهم كل ويلات ومخاوف وعذاب الطبقة الفقيرة، ومصيبتهم ثقيلة أنهم يريدون أن يكونوا طبقة أخرى، لا هي تحت ولا هي فوق، ولكنها تتسخ بوحل تحت، وتكتوي بنار فوق، ومن الدخان والنار والطين، والأمل واليأس، تتولد كل شرارات الإبداع عند الناس، ولكن ما أفدح الثمن!».

هذا التفسير صائب، لأنه يتحدث عن مصر في الخمسينيات أو قبلها بقليل، بل والواقع يشي، الآن، على نحو ما بأنه ما زالت في مصر تداعيات تلك الطبقات الثلاث، وإن كان يتحتم علينا أن نطلق لقب الطبقة الأرستقراطية، على أولئك الذين رفعهم ثراؤهم بعدما أقرت الدولة حرية العمل والكسب. الأرستقراطية في مصر قديمة ولها أساسها وتاريخها، ولكن في ليبيا لم تكن هناك أرستقراطية لا زمان ولا الآن. ولذلك عندما نصح الرئيس جمال عبدالناصر معمر القذافي بعدم التفكير في التأميم فلأنه كان يعي جيدا أنه لم يكن في ليبيا عند قيام ثورة سبتمبر أرستقراطية بالمعنى المفهوم، وهذا رأي حقيقي عايشه جيلي، فالمرحوم نجيب مازق ابن والي برقه كان في فصل واحد مع المرحوم عمر دبوب، المكافح اليتيم، وفي فصلي لم يكن هناك أرستقراطي واحد. عدد منا كانوا إلى حد كبير من أسر ثرية بما يعود عليها سنويا بأرباح تربية الأغنام والزراعة، وعدد آخر يعود دخلها ثروة ويعود إليها من أفران باتساع بنغازي ويقول الناس (خبزة عيت أمنينه من الطبق للكوشة).

الوجيه الرجل الوطني (الفزاع) لوطنه، يوسف لنقي كان يرحل بأغنامه إلى مصر رفقة عدد من مربي الأغنام يبيعونها في الإسكندرية ويعودون بأثمانها بالبقول المتنوعة والأقمشة. ولما تقرر سفر وفد ليبيا إلى نيويورك لحضور اجتماعات هيئة الأمم المتحدة للنظر في استقلال ليبيا، سنة 1950 كان هو من تفاهم مع شفيق خزام، وهو سوري الجنسية، صاحب مصنع الأردية في بنغازي بالإنفاق على تكلفة سفر الوفد وكان هو الضامن على سداد المبلغ الذي يُنفق، وبالفعل سدد دين ليبيا. ولعل ذلك ما يؤكد أنه لم تكن هناك أرستقراطية، أو ثراء يتعين تأميمه.

ومع اكتشاف النفط وتصديره رفعت مرتبات الموظفين بنسبة 100/100 وكنت أنا أحد الذين شملهم هذا القرار سنة 1962 فهل خلال تسع سنوات تكونت لدينا أرستقراطية أو برجوازية، أو أثرياء يستحقون أن نطبق عليهم التأميمات؟ لم يكن هناك من يملكون مئات آلاف سوى قلة لا يتجاوزن أصابع عشرة ليبيين، والعجيب أنه بعد التأميم تكاثر مليونيرات بعدد أرستقراطية مصر في عصر محمد علي.

فماذا أريد أن أقول؟: لم تكن ثمة حاجة لتأميم أي شيء، يستحق (تأميمه) سوى الجهل.. الجهل! وتقليد بطله القومي من غير أن يفكر أن حال مصر يختلف تماما عن حال ليبيا من ناحية الأرستقراطية، والطبقية، التي تأسست، في مصر، من عهد المماليك.

لم تكن التأميمات، باستثناء التأميم الشكلي للنفط قرارات صائبة، فحجم ثراء ليبيا وسعة أرضها، وقلة شعبها لا تجعل أي حاكم يفكر في التأميم، حتى إن الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله، اعترف بأن قرار تأميمه للبنوك الأجنبية كان من أخطائه المفصلية، التي اعترف بها، ولكن لأن القذافي من شعب «صعيب عناده» أمّم حتى محلات الخضروات، والقصابين، وأصبح المواطن البسيط، لا يرى «الكوارع والكرشة» سوى أيام أعياد الأضحى. أذكر أننا كنا عائدين من جنازة أحد معارفنا. وفيما كان مفتاح الفلاح يقود العربة، ونحن نخطط لعشاء تلك الليلية، التفت نحو المرحوم مفتاح الفرجاني، وقال له: «يا مفتاح بالله خلي هلك يطبخون لنا أي يوم طبيخة فاصوليا بالكوارع لم أذق في حياتي مثل الذي تعده زوجتك..» فقاطعه مفتاح: «أين أجد لك كوارع.. إلا إن كنت تريدها أن تطبخ لك فاصوليا بـ (القيلات)!» وهي لمن لا يعرف (عكايز المرضى)! وانفجرنا ضاحكين. وكان ذلك واقعا اختفت مثل هذه الوجبات وأصبح الحصول عليها صعبا، وكأنها من الممنوعات، ولكن مفتاح بحكم علاقاته في بنغازي، بسبب ترؤسه لمصلحة المياه، وخشية المجزرة من لسانه الحاد، جاء إلى بيت مفتاح بشوال كرعين! وأخذناها إلى صديقنا إبراهيم النوال وكان يعرف من يستطيع تنظيفها وإعدادها، وشاركنا تلك الوجبة!

التأميمات، والاستحواذ على أراضي الناس، ومغبة الحروب في أوغندا وتشاد، وكثرة الأجهزة الاستخباراتية، وصعوبة السفر، كلها كانت مصائب، ولكن من منا لا يعرف أن قانون الضمان الاجتماعي بديع، وأن العلاج المجاني عمل جبار، وأيضا الاهتمام في السنوات الأربع الأولى بالتعليم، وإيفاد المتفوقين، ولكن لم يطل ذلك العمل الجبار، واقتصر سريعا على مناطق ثورية يعرفها الليبيون جيدا، وكان الاهتمام بالجامعات مؤسسا وموجها نحو فكر واحد.

أمور كثيرة، لو أنها نُفذت بعيدا عن النقاط الخمس، والكتاب الأخضر لجعلت من بلادنا شيئا آخر، من يذكر على سبيل المثال مصنع الدراجات، ومصنع القوارب ، ومصنع الشكولاتة، ومصنع المنسوجات، ومصنع الأحذية... وغيرها كثير، نجح بعضها بسبب حسن الإدارة ونزاهتها مثل التي أدراها المرحوم الأستاذ محمد النوال، وهما مصنع النسيج، ومن بعده الكوابل ومصنع فرش بني وليد. مشاريع كثيرة نجحت بالفعل بسبب إدارة مؤهلين منتمين إلى الوطن، فمن لا يذكر نجاح مصنع الأسمنت عندما كان يديره المهندس علي الغرياني، وحزمة المشاريع الزراعية، التي أشرف عليها وأدارها المهندس بشير جودة، ومشروع الكفرة الزراعي، ثم النهر الصناعي، والجهد الذي قام به المهندس جاد الله عزوز الطلحي، مشاريع عديدة ولكنها ضاعت لأسباب يطول تفسيرها، لعل أساسها بديهية توفر المادة الخام، ووفرة الأيدي العاملة، وأغلب المشاريع قامت وفشلت بسبب هذين العنصرين، ومع ذلك كان لمن تولوها في البداية جهد خارق ونجحت بالفعل، إلى أن تسلل إليها رجال العمولات (الدكنونية)!

وانتشر شبابنا في حروب في أوغندا وتشاد، ولبنان، وحوالي مليونين هاجروا باتساع العالم، وأشهد الله أنني التقيت بعازف في مرقص بقرية (فيبرج) التي تقع وسط ثلوج (قبوعة) العالم الشمالية، كان زنجيا أنيقا، بضفائر أنيقة، وعندما دعوته لمشروب، وسألته باللغة الإنجليزية عن أين أصوله أجابني ضاحكا: «من باب بحر!» كان طرابلسيا رائعا! والتقيت بعدد آخر في هلسنكي، بل وفي قرية صغيرة قريبة من (كونجو) التقيت بشاب متزوج من صينية ويديران معا مطعما، وذات يوم طهت لنا زوجته (أمبكبكة بالقديد!).

وكثيرا ما تساءلت، بيني وبين نفسي، هل نحن فعلا بضعة ملايين؟ مثلما يقولون، أم ثمة خطأ في التعداد السكاني، الذي نُفذ فيما أعتقد ثلاث مرات في تاريخ ليبيا بدءًا من مطلع الخمسينيات.