Atwasat

الحرب ساخنة وباردة

نورالدين خليفة النمر الخميس 10 مارس 2022, 12:16 مساء
نورالدين خليفة النمر

الحرب العالمية الثانية التي كانت باردة في أوروبا، وانتصر فيها للمرة الثانية الجنرال ثلج على قوات ألمانيا النازية في سهوب روسيا، كانت ساخنة في الصحراء من بلدة "العالمين" حتى "طبرق" الليبية. أما الحرب الباردة التي كانت ساخنة في ألمانيا فصلت شرقها عن غربها الأيديولوجيا والسلطة والحدود والأسلاك، وفصل عاصمتها برلين جدار حجري ببوابة تشيك بوينت تشارلي الرئيسية تقاسمها جنود آميركان وروس. كانت في ليبيا باردة تلطفها نسمات البحر الأبيض المتوسط، حيث قاعدة ويلس الأمريكية في ضاحية العاصمة طرابلس، وجوداً عسكريا عزز الاستقلال الليبي بالآمان ونأى به عن المغامرات القومية العسكرتيرية، ودعم الميزانية الليبية الفقيرة بالأموال التي حسنت الاقتصاد ووضعت أسس تنمية سيعززها انخراط الشركات الأمريكية في اكتشاف النفط الليبي وتصديره .

في لقائنا الأسبوعي بمنتدى فن الرسم بضاحية بادغوسبرغ بمدينة بون، أتيت باكراً بسبب موعد سابق مع طبيب العظام، فوقفت أنتظر متأملاً لوحات المعرض الدي افتتح في يوم سابقه، وإدا بالمسؤولة بجانبها رجل تفتح الباب وتناديني. جلسنا ثلاثتنا ملتفين على طاولة. وطفقت تتحدث عن الغزو الروسي لأوكرانيا متناولته من زاوية شخصية، كونها من مواليد عام 1948أدركت المعاناة والتوتر المجتمعي والنفسي الذي عصف بالألمان إبان الحرب الباردة التي وعتها صبية مدرسة ألمانية وشابة ستخصص دراستها الجامعية بشهادة الماجستير في اللغة الألمانية وآدابها، والتاريخ .

جلست مستمعاً لها وقد توجهت وكأن القضية لا تعنيني بحديثها للرجل الألماني الذي عايش الحرب الباردة طفلاً. تحدثت عن معاناة الألمان الذين تمزقوا بين شرق وغرب وعن حملات البروباغندا الأيديولوجية واختراق أمن الحكومتين بشبكات الجوسسة والتنصت والقواعد ونصب الصواريخ، كما عرجت على أزمة الصواريخ الكوبية، التي كادت أن تُشعل حرباً نووية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، وعن الغزو الروسي لدولة تشيكوسلوفاكيا الذي قمع أكمام زهور الديمقراطية في ربيع العاصمة براغ .
وقد لاحظت أن الوقت أزف لقدوم الأعضاء الآخرين، توجهت لي بالحديث مستدرجتني إلى الاصطفاف إلى جانب ألمانيا والغرب لما اقترفته الرئاسة الروسية وقوتها العسكرية في سوريا. فأضفت مقرباً المسالة إلى دائرتي الشخصية المتعلقة بمواطنيتي الليبية التي زرعت روسيا في شرقها مرتزقة "فاغنر" وكيلتها شبه العسكرية التي انبثت مجموعاتها المسلحة والمدربة مسيطرة على حقول النفط في الجنوب من شرق ليبيا بل ساهمت بفعالية في الهجوم على العاصمة طرابلس الذي نفذه عام 20 ـ 2021 مُسمى قائد الجيش الليبي الذي نجح في تقسيم البلاد إلى شرق وغرب .

بنفس المنتدى، وهو المكان الثقافي شبه الوحيد المتاح أمامي إزاء عزل كورونا للتحادث الثقافي والسياسي، انجذبت للحديث في المسألة الأوكرانية، كنا ثلاثة، رسامة ألمانية من أصل بلجيكي، ومؤلف كتب، تركزت وجهة نظرهما على شخصنة المسألة بالرئيس الروسي المهووس بالهواجس الأمنية التي تربى عليها في جهاز الاستخبارات السوفياتي الـكي جي بي، وتحكم ذهنيته بنوستالجيا استعادة العظمة السوفياتية الغاربة .

أخذت منهما ناصية الحديث، متموضعاً خارج مشاعري الليبية التي يبهظها التدخل الروسي في الانقسامية الليبية بالمرتزقة لصالح استعادة الحقبة الدكتاتورية الساقطة عام 2011 والمواقف المتعنتة من طرف مندوبها في مجلس الأمن الدولي لأية تسوية غربية للقضية الليبية تستبعد أنصار النظام الدكتاتوري الليبي السابق الذي أسقطته عام 2011 ثورة شعبية .

سياسة الرئاسة الروسية في ليبيا وامتدادها في أفريقيا تحكمها البرجماطية والمنافعية التي تحفزها الأطماع والتنافس على حصة في الكعكة تفتكها من الدول الغربية والصين. أما التدخل في سوريا فإنه يموضع المصالح السياسية بأن تكون روسيا لاعباً رئيسيا في الشرق الأوسط ونزاعاته: العربي/ الإسرائيلي والعربي بالذات الخليجي/ الإيراني والمنافسة التركية. في أوكرانيا فإن الأمر أبعد من المصالح الاقتصادية. إد ينبغي النظر للتدخل الروسي في شكل غزو مسلح للدويلة الجارة أوكرانيا الواقعة على الحدود مع روسيا والمدمجة سابقاً في الاتحاد السوفياتي بأنه بمثابة دفاع عن المجال الحيوي الروسي، وطبقا لرؤية جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى جامعة شيكاغو، تحكمه حسابات نظرة ثلاثية الأبعاد متكاملة ومترابطة، يبدأ أولها بفكرة توسع حلف شمال الأطلسى «ناتو» (NATO) وامتداده شرقا فى اتجاه حدود روسيا، وثانيها توسع وتمدد الاتحاد الأوروبى، وثالثها التبشير بحتمية تحقيق الديمقراطية الليبرالية على النسق الغربى ودعم وتمويل عمليات الانتقال الديمقراطى فى دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة بما يمثل تهديدا كبيرا لقوة الدولة الروسية ومركزيتها، وتحقيق الهدف النهائي بإسقاط نظام الحكم فى موسكو، واستبداله بنظام صديق لواشنطن والغرب.

الأهم بالنسبة للرئيس الروسي والدائرة الضيقة المحيطة به استيفاء المشروعية من الأمة الروسية بالتفاف الشعب على قرار الحرب في جورجيا وضم القرم واليوم الهجوم على أوكرانيا واحتلالها، واستمرار المشروع للمستقبل .

لاحظت على الجيل الألماني لمابعد الحرب الباردة الذي يمثله محاوري الكاتب، الذي اعترف لي بأنه لم يقرأ أية رواية لدستويفسكي، نقص درايته بالأدب العالمي والسوفياتي والروسي عموماً، وبالذات رواية القرن التاسع عشر التي انشغلت بتأكيد مسألة الهوية الروسية إزاء الغرب .

في صدد الهوية الروسية إزاء الغرب يرى آندرو كاوفمان الأمريكي في الأدب الروسي، أن الذي يؤرِّق الرئيس الروسي وهو يغزو أوكرانيا السؤال الذي قد يكون السبب الرئيسي للأزمة الأُوكرانية، وهو نفس السؤال الذي تكرَّر مرارًا في الأدب الروسي خلال القرن الـ 19، وقاده في التوجه نحو الأوربة الكاتب "تورجينف"ونحو السلافية والروسنة الكاتبان تولستوي ودستويفسكي على نهجين مختلفين. 1 ـ تولستوي الدي أثرت فيه النزعة الطبيعية الإنسانية متمثلة في فلسفة جان جاك روسو لم يكن قوميًّا يؤمن بضرورة تفوُّق العرق الروسي على غيره، وإنما حافظ على إنسانية جميع الشخصيات التي قدَّمتها رواياته، سواءً كانوا روسًا أو من الغرب. شخصيات روايته الكبرى "الحرب والسلام" أو أتراكًا أو من الشيشان كروايته "الحاج مراد"، و "القوزاق" . و 2 ـ دوستويفسكي الدي اعترف الرئيس الروسي بتأثير رواياته فيه كـ الجريمة والعقاب ،والشياطين، وبالذات "الأخوة كرمازوف" و " خطاب على قبر بوشكين" كرَّر التحذير من النمط الغربي، معتبرًا إياه "بلا روح، ونموذجا تجب مقاومته بأي ثمن". كما حلم بإمبراطورية مسيحية شرقية جديدة نواتها الرئيسية تُبعث من روسيا، تحمل مهمة إنارة الإنسانية ضد الغرب الذي يمثِّل كل ما هو فاسد وشرير. هذا التماهي الكبير في أفكار السياسي والكاتب دفع السياسي الأمريكي الشهير هنري كيسنجر إلى أن يقول مند سنوات بأن الرئيس بوتين "رجل خرج من رحم أدب دوستويفسكي" .