Atwasat

24- زمن الصخب والغضب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 07 مارس 2022, 12:53 مساء
محمد عقيلة العمامي

«... الزمن في رواية (الصخب والغضب) هو الواقع، ما يجري على الأرض، ولكن لا يعني هذا أنّ الزمن مفهوم سرمدي جامد، بل هو متحرك، متلوّن، ما دامت الحياة تاريخا صاخبا، لا يقف عند نقطة معينة، لا يرتهن بموقف جامد، ولذا لكل منّا زمنه الخاص به، لكل منّا واقعه؛ وبالتالي له زمنه المتحيّز في ممارساته وطموحاته وانشغالاته».

هذه فقرة من مقالة نقدية لرواية وليم فوكنر، المشار إليها أعلاه، كتبها الناقد الكاتب والمفكر العراقي غالب حسن الشابندر لموقع إيلاف.

وكذلك كان زمن الأربع سنوات الأولى من قيام ثورة سبتمبر التي خرج الناس في ليبيا يناصرونها. أنا شاهد عيان على ذلك، ولا أحد بمقدوره أن يقنعني بأن الليبيين لم يخرجوا عند رفع حظر التجول، في اليوم الرابع من شهر سبتمبر 1969 مؤيدين وفارحين. أما التململ والتذبذب وارتفاع الأصوات الناقدة بدأ من بعد أربع سنوات، وفي السنة الخامسة بدأ التنكيل وزيارات الفجر، ثم إعدام 21 ضابطا في محاولة عمر المحيشي الانقلاب في أغسطس 1975، ثم في 7 أبريل 1977 أُعدم شهيدان مدنيان جهارا نهارا وفي ميدان عام هما الأستاذ عمر دبوب ومحمد بن سعود. تلك الإعدامات، التي لم يرَ الشعب الليبي مثلها إلا إبان زمن الاستعمار الإيطالي لليبيا، وبذلك مهد معمر القذافي الطريق في تنفيذ ما يراه صائبا، والواقع أن بعضه كان صائبا، وليس كله، ومنها لم يعد أحد يعلن أن «ثلث الثلاثة كم؟» سوى فئة قليلة رأت أن المعارضة يتعين أن تكون حاضرة ومواجهة، وكذلك استمر بعضها حتى سقوط النظام بعد 42 سنة.

لعل أسوأ ما نفذه هذا النظام، هو تهميش شرق ليبيا، وكذلك جنوبها، فيما اهتم كثيرا بغربها. وجعل منه نقطة مراقبة الدخول والخروج، معللا ذلك بأنه ينبغي أن يكون للبيت باب واحد! وهذا ما جعله يقرر أن يكون مطار طرابلس فقط هذا الباب. أصبح على المسافر إلى سورية، مثلا، وهي التي تقع شرق ليبيا، أن يسافر 1000 كيلومتر غربا ثم يطير المسافة ذاتها، قبل أن يغادر الأراضي الليبية نحو وجهته الشرقية!، واستمر الحال طويلا قبل أن يصحح هذا الإجراء. القناعة بذلك الباب كانت السبب في اتساع طرابلس، وتقلص بقية المدن الليبية بدرجات متباينة.

ثم ضاق الحال كثيرا من بعد إحكام تأميم التجارة، وأصبح التموين لليبيا كلها يتم خلال جهات عامة، فتعلم الناس التجارة من خلال العمولات التي لم يعجز تجار الغرب عن تسهيل سبل دفعها، ولكن هل نقول كل الذين تولوا مناصب التموين مفسدين؟ لا، ولكن لا بد أن أحدا ما يسير الأمور (دكنوني) وغالبا من دون علم ذلك النزيه الذي يوقع الاعتمادات ومستندات الصرف.

حتى سنة 1985 كنت مدخنا شرها، ذات مساء لم أجد في بيتي سجائر، خرجت وطفت أماكن بيعها سرا، ولم أجد أحدا ممن يقفون في أماكن محددة، يبيعون أصناف (الجربا) كما تسمى في بنغازي، و(التكيلا) كما تسمى في طرابلس، ومعها ظللنا نبحث عن التبغ.

وعدت إلى بيتي وفكرت أن أطرق باب أحد جيراني، ولا أخفي عليكم أنني كرهت عبوديتي لهذه اللفات البيضاء جدا والقبيحة جدا. لا أدري كيف قررت أن أتوقف تماما عن التدخين! ولا أدري كيف أنني لم أعد إليه منذ ذلك التاريخ، علما بأنني دخنت أول لفافة سنة 1960 يعني مدخن لأكثر من 25 عاما.

القهر، الذل، العجز يجعل المرء قاسيا في قرارته، وفي تقديري أن هذا ما دفع العديد من الشباب إلى أن يسلكوا طريق المعارضة، التي في ظروف ليبيا، في ذلك الوقت لا تتم إلا من الخارج، والمعارضة لم تكن سياسية فقط، فكثير من الشباب رفضوا البقاء في ليبيا، وكثير منهم أخذوا يعملون في البناء والتشييد، وعدد من أعمال أخرى يترفع عنها الغربيون، بما في ذلك مالطا (الحنينة)، التي شاهدت بنفسي شبابا يعملون في بناء مساكنها، فيما يعمل في بناء مساكن ليبيا عمال من أنحاء العالم!

عشت هذه التجارب، ولكن لم يكن من حل سوى التعامل معها على أساس أنها قدر، ولا ينبغي مطلقا التفكير في معارضة، فالحمل كان ثقيلا عليّ، وحتى بعدما خف كثيرا في منتصف السبعينيات، امتلكت سكني الخاص، وتزوج الأخوان، والشقيقات، وعادت الحاجة وافية وكذلك سي عقيلة من مكة. ولكن بدأت بنياتي ينضجن، وأبنائي لم يعودوا أطفالا. فكرت في الهجرة إلى مصر، وذهبت بالفعل، صحبة زوجتي وأطفالي بعدما أخبرت أخي، وأكدت عليه ألا يخبر أمي، ولكنه لم يفعل، فلقد جاءني في اليونان جار كريم وصديق عزيز، وأخبرني أنه مبعوث من أمي التي تأمرني ألا أفعل، وأن أعود، فعدت مؤكدا لها أنني لم أكن أنوي أبدا أن أتركهم، كانت مجرد إجازة ولكنها لم تكن كذلك، وأحمد الله أنني لم أفعل، فلقد تأذى وقاسى الكثيرون مغبة الغربة، ولم يكن ثمة داع لها على الإطلاق.

لم تكن التأميمات، باستثناء التأميم الشكلي للنفط قرارات صائبة، فحجم ثراء ليبيا وسعة أرضها، وقلة شعبها لا تجعل أي حاكم يفكر في التأميم، ولقد سمعت أن الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله، نصح القذافي بعدم التأميم، وأخبره أن قرار تأميمه للبنوك من أخطائه التي اعترف بها، ولكن لأن القذافي من شعب «صعيب عناده» أمّم حتى محلات الخضروات، والقصابين، وأصبح المواطن البسيط، لا يرى «الكوارع والكرشة» سوى أيام الأعياد. أذكر أننا كنا عائدين من جنازة أحد معارفنا. وفيما كان مفتاح الفلاح يقود العربة، ونحن نخطط لعشاء تلك الليلة، التفت نحو المرحوم مفتاح الفرجاني، وقال له: «يا مفتاح بالله خلِّ أهلك يطبخون لنا أي يوم طبيخة فاصوليا بالكرشة..» فقاطعه مفتاح: «أين أجد لك كرشة.. إلا تريدها أن تطبخ لك فاصوليا بـ (الجيلات)!» وهي لمن لا يعرف عكايز المرضي! وانفجرنا ضاحكين، وكان ذلك واقعا اختفت مثل هذه الوجبات وأصبح الحصول عليها صعبا، وكأنها من الممنوعات.

التأميمات، والاستحواذ على أراضي الناس، ومغبة الحروب في أوغندا وتشاد، وكثرة الأجهزة الاستخباراتية، وصعوبة السفر، كلها كانت مصائب، ولكن من لا يعرف أن قانون الضمان الاجتماعي ليس قانونا بديعا، وأن العلاج المجاني ليس عملا جبارا، وأيضا التعليم، والجامعات لو لم توجه نحو فكرة واحدة. كلها أمور كادت لو نفذت بعيدا عن النقاط الخمس، والكتاب الأخضر لجعلت من بلادنا شيئا آخر، من يذكر على سبيل المثال مصنع الدراجات، ومصنع القوارب ، ومصنع الشكولاتة، ومصنع المنسوجات، ومصنع الأحذية... وغيرها كثيرا، من البديهيات أن أسس الصناعة إضافة إلى توفر المادة الخام، هي وفرة الأيدي العاملة فيما كنا ثلاثة أو أربعة ملايين، منتشرين نحارب في أوغندا وتشاد، ولبنان، وفي المصانع المنتشرة باتساع ليبيا، وحوالي مليونين هجروا ليبيا، وأشهد الله أنني التقيت بعازف في مرقص بمدينة صغيرة في وسط ثلوج (قبوعة) العالم الشمالية، كان زنجيا أنيقا، بضفائر أنيقة، وعندما دعوته لمشروب، وسألته باللغة الإنجليزية عن بلده أجابني ضاحكا: «من باب بحر!» كان طرابلسيا رائعا! والتقيت بعدد آخر بهلسنكي، بل وفي قرية صغيرة قريبة من (كونجو) في الصين. فهل نحن فعلا بضعة ملايين؟.