Atwasat

23- الوجه الآخر للقمر

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 فبراير 2022, 10:04 صباحا
محمد عقيلة العمامي

«صحيح! سامرت القمر قبلك كثير.. ومعك أنت شفت الوجه الآخر للقمر.» إنه بيت جميل للشاعر الرقيق نادر العماني، ولكن أي وجه، من الوجهين سامره شاعرنا البديع هذا؟ وهل يعلم أن للقمر وجهاً واحداً ومضيئاً على الدوام! سامرت أنا أيضاً القمر كثيراً! سامرت نوره والهالة التي تحيط به، وسامرت ظلامه، ولكنني كنت أعرف أنه يشع نوراً في الجهة الأخرى، إذن القمر هو القمر تراه ولا تراه، وأنت هو أنت، إما أن ترى نفسك أو لن تجدها طوال حياتك. والتجربة هي التجربة، إما أن تضعك تحت إبهامها، أو تضعها أنت تحت قدميك، إما أن تستفيد منها أو تستفيد هي منك، فحذارٍ! فدعوني أحدثكم عن لعبة «الروليت الروسي» المرعبة.

إنها مقامرة تكلف المقامر رأسه! مسدس به طلقة واحدة، والمقامرة بتصويب فوهته نحو صدغ المقامر وضغط الزناد، إما أن يخسر المقامر رأسه، أو أن يخسر المراهنون أموالهم، ويفقدوا احترامهم اليوم التالي أمام أطفالهم. وهكذا كانت المغامرة في ليبيا، أفلم يضع الثوار في كل مكان في العالم رؤوسهم على أكفهم ويعلنوا ثورة على القوة التي تحكمهم بالسلاح. هكذا فعل القذافي وأسقط نظاماً، وأقام نظامه؛ أعلن ذات يوم في مؤتمر عام أن حكم ليبيا وصله ببندقيته، وقامر برأسه، وهو لا ينتظر من أحد أن ينصبه ملكا! ذلك عندما تملقه - بعض الليبيين السعداء في مؤتمر الشعب العام - بالدعوة إلى تنصيبه ملكا مدى الحياة! وهكذا حاول البعض من رفاقه وضباطهم القيام بما قام به، ففقدوا رؤسهم، وهكذا حاول المعارضون، ولكن دون سلاح، ومع ذلك فقد الكثيرون حياتهم، أو فقدت أسرهم الهناء والراحة في بيوتهم.

كانت سنوات مرعبة، ما كان أحد، ممن خرجوا لمناصرتها يوم 4 سبتمبر 1969 يتوقعها . ويظل لوجه قمر الحياة المظلم، وجه آخر تضيئه أنوار ملونة تجعل قاعات صالاته الباذخة تشع وكأنها سماء تتسابق فيها الألعاب النارية. وكذلك كانت السنوات الأولى من قيام ثورة سبتمبر، أو «انقلاب سبتمبر» مثلما يراها البعض. كان القمر لا يغيب عن سماء ليبيا، حتى وهو يضيء الجانب الآخر من الكون، كان الناس في بلادي يحبونه كثيراً، فهو الذي يبشرهم بمواسم الأعياد، والمناسباب الدينية. تتوالى بسرعة، وشهر رمضان هو الأهم، وهو سريع الحضور «عمر عدوك.. شهرين وشهير رمضان وقصير».

ولكن الناس انتبهوا إلى أنه لم يومض فوق رؤوسهم، بسبب الحزن بسبب شنق أبنائهم خلال شهر رمضان، فلاذوا بالمساجد ، فيما غاب آخرون سكارى في مواخير العالم، إما حزناً أو لهواً. لقد كانت طفرة غير طبيعية تلك التي حدثت في ليبيا خلال السنوات الخمس الأولى من عمر سبتمبر. فلقد كثر المال بصورة أعجز بالفعل عن تصويرها، أذكر ذات ليلة في لندن، خطر لصديقي رمضان جربوع أن يأتي بشاعر إنجليزي يلقي علينا قصيدة الشاعر الإنجليزي «William Blake» المسماة «Poison Tree»، لأنه حضر حفلا أقامته الجامعة الليبية وكنت قد ألقيت هذه القصيدة، كمشاركة من قسم اللغة الانجليزية، فظللنا تلك الليلة نسمعها، فيما نجوب ليلاً شوارع لندن في سيارة «رولزرايز»، كان يؤجرها لتنقلاته هناك.

عشت تلك الفترة وشاهدت مبالغات في الإنفاق تفوق أي وصف، وكانت محاور الإنفاق كازينوهات القمار، التي تقدم المشروبات بأنواعها بالمجان، وتحسن معاملة وخدمة فتيات من مختلف أقطار الدنيا، فيكون ما يريده رجال الصحارى القاحلة متوفراً وفي متناول غمزة أو لمزة، وانتشرت الملاهي الليلية العربية التي انتشرت في لندن، فتسمعت المواويل العربية والشجن والإيقاعات الراقصة، حتى تأخذ محلات «ريجنت ستريت» تفتح أبوابها! كان عالماً ما كان يخطر على بالنا أن نكون جزءاً منه. ذات مرة قال لي الراحل العزيز (سالم لحصيّن) في لندن: «ما كان يخطر على بالي أبداً أن ينحنى لي مستر جوني، الذي كنت وأنا طفل أقول لـ(جد بوه): (جوني بقشيش) ويفتح لي باب السيارة الخلفي، فيما تكون فتاة شقراء (كذؤابة اللهب) تفرد ذراعيها متبسمة مرحبة بي!. أحد تجار مواسير النفط، ثم أصبح تاجر سلاح، كنت قد تعرفت عليه في بنغازي قبل سبتمبر 1969، ثم التقيته في طرابلس بعد سنة 1969 وتخلقت بيننا صداقة، ثم غاب عني سنوات إلى أن التقيته، ذات مساء، في لندن في حى «مي فير» الأروستقراطي الشهير، وأصر أن نتعشى معاً، وأخذني إلى ملهى «البلاي بوي» وشاهدته يخسر قرابة خمسمئة ألف جنيه استرليني، قبل العشاء، وسيطر عليّ إحساس بأنني لن أتعشى، فمن بمقدوره أن يمضغ حتى «غزل البنات» وهو يشاهد هذه الثروة تتبخر في ساعة واحدة؟! ومع ذلك أصر على أن نتعشى! وتناولنا وجبة كنت خلالها كمن يمضغ في «رأس حنش» فيما كان هو يلهو ويضحك، وكأنه هو من كسب نصف المليون جنيه استرليني. واكتشف، في ما بعد، أنه كثيراً ما خسر ملايين وكسب مثلها، ولا أخفي سراً أنني ظللت أتجنبه، إلى أن رأيته بعد نحو ثلاثين عاماً في طرابلس، في مكتب صديق عرفت أنه يمرعليه بين حين وآخر، ليعطيه زجاجة من «حليب السنافر»، فلقد خسر كل شيء حتى كرامته. ففي تلك الأثناء، أعني عند لقائي بصديقي المقامر، الذي أشرت إليه، كثرت سفرياتي إلى بريطانيا لأنني تعاقدت مع إحدى الشركات على توريد بند واحد من طلبية لشركة النسيج، كان مبلغها يفوق ثلاثمئة ألف جنيه، وكانت قيمتها لي في ذلك الوقت خيالية! وكسبتها لأنني الوحيد الذي قدم عينات وسعراً مناسبين، وعرفت في ما بعد أنه لا أحد اعتقد أن البند مجرد «خرق» زوائد أقمشة! إذ يبدو أن المشاركين في العطاء لم يعرفوا أن كلمة «Rag» أو يكونوان قد استبعدوا أن مصنعاً كبيراً يطلب هذه السلعة المتوفرة وبكثرة في بلادنا، وأعترف أنني شككت أيضاً في ترجمة الكلمة، ولذلك ذهبت إلى مهندس المشروع وتأكدت من أن المطلوب مجرد «خرق»، شريطة أن تكون قطنية! وكسبت العطاء ووضعني مكسبه على الطريق الصحيح.. فماذا حدث بعد ذلك؟ أصبحت الرحلة إلى لندن، وكأنها سفرة إلى الفعكات! أذكر ليلة أنني مررت على صديقي عبدالله السوسي، لأمر ما، وجدت معه المرحوم سالم الشيباني. كنا حينها أسسنا شركة مساهمة للمقاولات، وكنت رئيس لجنة مراقبتها، وهي التى قامت بمد مواسير شبكة مياه في منطقة من مناطق بنغازي. تعشينا معاً، وبعد أن ارتفع أذان الفجر بقليل، طلبا مني أن آخذهما إلى المطار، فلقد كانت رحلتهما إلى لندن، من مطار بنينا، في الصباح الباكر، وأوصلتهما إلى المطار، ثم تركتهما مع صديقنا المرحوم مفتاح الفيتوري مدير حركة المطار في ذلك الوقت، وعدت، وعندما وصلت نهاية شارع المطار، تداعت أمامي حياتهما في ذلك الفندق الفخم، وكيف يقضيان أيامهما، وكان جواز سفري معي والتأشيرة البريطانية كانت تمنح لنا لمدة ستة أشهر لعدة رحلات، ثم أصبحت تمنح لنا لسنة كاملة.

فعدت سريعاً إلى المطارلألحق بهما، ولكن ما إن وصلته حتى أخبرني مفتاح أن الركاب في الطائرة وأنها تحركت، ولكن بمقدوري أن أذهب الآن إلى طرابلس، وأستقل طائرة «البرتش كليدونيا» منتصف النهار وأكون في لندن في المساء، وكان لصديقنا محمد السوسي مكتب حجوزات طيران، فاتصلت به وحجز لي تذكرة وكلف من يأخذها لي في مطار طرابلس، مع بضعة جنيهات استرلينية كفيلة بتوصلي إلى «47 بارك ستريت في لندن» أين اعتدنا أن نقيم، ولما وصلت وطرقت الباب وفتحه سالم وانكفأ يواصل حكايته وكأنني معهم كل الوقت، فلقد كنت ببنطال جينز وقميص بني، وشبشب! ولم يكن معي شيء آخر سوى كيس السوق الحرة! وبغتة، انتبه داهشاً: «كيف جيت؟» أجبته: «ببشكليطا!!»، وحكيت لهم، ما حدث.

كان الطقس بارداً، ولندن باردة، وكان معهم المرحوم رمضان الجنزوري، وكان الأقرب إلى مقاسي، وأمضينا وقتاً طيباً وعدنا إلى بنغازي معاً. لعله حتى خطاب القذافي وإعلان نقاطه الخمس من زوارة يوم 15/4/ 1973.

كانت الحياة حلوة، على معايير ذلك الزمن والعمر في ذلك الوقت! ولكن من بعدها بدأت إجراءات السفر تتعقد بسبب الموافقة الأمنية، ثم بداية مواجهة النظام مع العالم، والمعارضة، وتضييق الخناق على الليبيين كافة، والزج بالشباب الليبي، الذي لم يستكمل تدريبة فترة خدمة العسكرية، في حروب ليسوا مقتنعين بها، فيما أخذت تكتلات المعارضة لنظام القذافي تنتشر في العالم. واستمر القمر، مثلما قررله الله، بوجهين.