Atwasat

21- أناناس العريان

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 فبراير 2022, 12:44 مساء
محمد عقيلة العمامي

«لتنجح أنفق حياتك فيما يجعلها أكثر صمودا، وإن كنت لست مثاليا في عملك، تصرف وكأنك مثالي وستكون كذلك».

(وليم جيمس) وقال أيضا: «تعلم، اكتشف، جرب، استطلع، ونمِّ قدراتك وغير من حياتك». ولكن التجربة، من الكلمات المخادعة، مثلما وصفها الأديب الراحل صادق النيهوم في إحدى رسائله إلى الراحل خليفة الفاخري قائلا ما معناه: «.. إن التجربة ليست أصل أي كلمة من الكلمات الدقيقة، ولكنها قلب المشكلة ذاته، فالمرء لا يستطيع أن يفعل شيئا بالتجربة وحدها، ولا تستطيع أن تفعل شيئا من دونها، وهي أكثر أسلحة الكلمات حدة وفعالية في مخادعة الأصدقاء..»، بل وأضاف، مُبلغا ببلاغة: «لأنها ضللت عددا من الناس أكثر مما فعل الشيطان نفسه! ولكنه يقرر التجربة المفيدة هي تلك النافعة للحياة، المنسجمة مع اتجاه القانون العام، وواعية، ليس بها جزء واحد مصاب بالتخدير أو الغرور، أو بسوء الظن أو حسنه». والتجربة عند وليم جيمس، تتفق تماما مع ما كتبه صادق النيهوم، وظل يدعو لها ويقترح على أصدقائه أن يجربوا شيئا جديدا، كأن يكتبوا، أو يسبحوا، أو يجربوا القيام بعمل يحبونه.. المهم أن يعيش المرء التجربة، وكان يحاول توصيل أفكاره بشتى السبل، وكثيرا ما قام بتطبيقات غريبة وعجيبة في محاضراته أمام طلبته، في أميركا؛ وهذا ما كان الدكتور محمد علي العريان يقوم به أمامنا في مدرج رفيق، بكلية الآداب خلال سنتي الأولى1967- 1968.

أذكر أنه دخل ذات محاضرة، يحمل ثمرة أناناس ووضعها أمامه فوق منصته، وطلب منا أن نكتب صفحتين كما نريد، شريطة أن تكون ثمرة الأناناس جزءا من الموضوع، وكانت خبرتنا ومعرفتنا للأناناس ضئيلة، فأكثر ما كنا نعرفه عن هذه الثمرة هو اسمها فقط، وأنها نالت في بلادنا شهرتها بسبب خلاصتها المركزة التي تستخدم في مشروبات بلادنا الغازية، فمثلا كان في بنغازي حينها أربعة مصانع للمياه الغازية هي: معمل شويرب، وهو مالطي كان مصنعه خلف المسرح الشعبي مباشرة، ومصنع بومدين بالبركة بالقرب من الملعب البلدي، ومصنع الدنيني، في شارع شمسة، ثم مصنع المحرصي بالقرب من الفندق البلدي بشارع المستشفى؛ ولعل أشهر مصنع لهذا المشروب الغازي هو -(أناناس صداقة)- الذي يصلنا من مصنعه بمدينة درنة.

وبسبب عدم معرفتنا الواسعة لهذه الثمرة، اتجهنا بالضرورة إلى ابتكار قصصٍ لا علاقة لها بالأناناس، فأنا مثلا اتخذت من (أناناس صداقة) الذي يصلنا من معمله بدرنه، مدخلا وقلت أنه أفضل الأنواع، بحكم أنني ترعرعت في مقهى يتعامل مع أنواع المشروبات الغازية، ثم انتقلتُ أحدثه عن رحلة إلى درنة، التي زرتها وكانت مناسبة لأزور مصنع صداقة، وفي تلك الرحلة عرفت أنه لدينا في الجبل الأخضر(ثمار الشماري) وهو نوع من أنواع الفراولة البرية، وأنها لذيذة للغاية، وأنني فكرت أنه قد يصنع منها مشروب غازي، وهكذا كتب كل منا موضوعا عن ثمرة الأناناس وكانت بداية لمناقشة تطلعاتنا ومنها انطلق يحدثنا عن التجربة كما يراها وليم جيمس.

وكان للسيطرة على الانفعال محاضرات عديدة، وإن كان قد انفعل، ذات يوم أثناء محاضرته لدرجة فقد معها أعصابه: أذكر أنه كان يتحدث عن الأنثى، وكيف أنها قوة اجتماعية معطلة في العالم العربي، مركزا على صف الفتيات الأمامي، اللواتي كن، في ذلك الوقت، يجاهدن لينلن فرصتهن المستحقة في الحياة؛ ثم وقف أحد الطلبة طالبا الإذن بالحديث، فأشار إليه بالموافقة، فانبرى مقدما رأيه مستهله بأن (المرأة عورة..) فلم يتركه يكمل حديثه، وصرخ فيه بحدة وانفعال: (أمك عورة.. أختك عورة، إنما بنتي.. وزميلاتك الجميلات أمامي لسن عور..» واحتد النقاش وانفعل الدكتور العريان، وقال للطالب: «إما أن تغادر محاضرتي، أو أن أغادر أنا؟ لا أستطيع أن أبقى في غرفة مع من يقرر أن نصف العالم عور ..» وخرج الطالب، وهدأ الدكتور محمد العريان، وعاد إلى هدوئه وانتقل مباشرة يحدثنا عما كتبه هنري جيمس عن الانفعال، موضحا أن المرء لا يحتاج إلا إلى أن يضم قبضتي يديه، ويركز في أي قبح وسوف يشعر بالقبح في داخله فالانفعال يعطي إشارات واضحة إلى العقل بأن يستعد للمتاعب، أما إذا فكر المرء في أن شيئا مبهجا، فسريعا ما يستجيب العقل، وهكذا في مختلف الانفعالات بما في ذلك الجبن والشجاعة، والهمة والخمول، كلها من صنع عقل الإنسان وبإشارة منه، والأمر يسري على التعب أيضا! لا تتوهم أنك مرهق، حتى لو كنت مرهقا بالفعل، وفسر كيف أن الإنسان بمقدوره أن يتعلم حتى تلك الأمور التي يعتقد أنه لن يتعلمها، ثم اتسعت ضحكته المميزة، واستطرد: «ولكنني ضممت قبضة يدي، وركزت في ابن ال- ولا بلاش!- ولم تنجح التجرية».

وكان يقصد الطالب الذي أبعده عن المحاضرة، ثم استطرد ضاحكا: «إنه عصي على فكر وليم جيمس..». ويعد وليم جيمس من أوائل علماء النفس الذين انتبهوا إلى أن أي إحساس مادي، وكل اتصال بالعالم الخارجي يترك أثرا في خلايا المخ، ويرى أن النجاح هو الاستفادة من تلك الخلايا، التي تقرر: «أن ما تستطيع أن تفعله مرة، تستطيع أن تفعله مرارا». وأن نقطة التعب لا تعني توقف قدراتك، وأنك تستطيع أن تتجاوزها.

وليس هناك من فعل يقوم به الإنسان لا يترك أثرا في خلايا أعصابه التي تسجله وتختزنه. وبمقدور المرء أن يعاودها ثانية، وأن المهارة والقدرة نتيجة ما خزنة المخ في التجربة الأولى، وينصح بعمل شاق ولو مرة واحدة في اليوم، وإظهار البطولة في أشياء لست مضطرا لفعلها تجعل من الطاقة حية في أعماق المرء.

وإن اكتساب العادة الجديدة وتنفيذها، سريعا ما يتعودها المرء؛ لأن الوهن والتراخي في تطبيقها يقضى عليها. كان الدكتور محمد علي العريان ينقل لنا قولا شهيرا لوليم جيمس مفاده: «أبذر عملا تحصد عادة، أبذر عادة تحصد شخصية، طورها تنل مصيرا طيبا». إن العادة طبيعة ثانية فاحرص أن تكون عادة حسنة ومثمرة لك وللناس. لقد نقل إلينا الدكتور محمد علي العريان فلسفة «الإدراك السليم» خلاصتها: «الإدراك السليم لا يكتسبه المرء دفعة واحدة، لأن الحقيقية الكاملة لا تأتيك مرة واحدة، لأنها بعيدة المنال، فلا تشغل بالك بها، واعلم أن محكها هو نجاحها.. وهذا في الواقع مذهب رجال الأعمال».

وأعترف أنني أسست مسيرة حياتي على هذه المبادئ، ولم تخذلني أبدا، مثلما خذلني بعض الرفاق! والحمد لله أنهم قلة قليلة للغاية، على الرغم من أن بعضهم استطاع أن يكون «حاجة كبيرة»!.