Atwasat

تلك النظرة

جمعة بوكليب الخميس 27 يناير 2022, 12:44 مساء
جمعة بوكليب

هي واحدةٌ من تلك اللحظات الغريبة نسبياً. تأتيكَ من حيث لا تدري، وأنتَ مستغرقٌ في أمر من أمورك. فيصير الزمنُ في داخلك مثل كثيب رمل وقد انهال فجأة. أو هذا، على الأقل، ما أحسستُ به حين داهمتني ذلك المساء، وأنا منهمكٌ في قراءة مقالة، كتبها اللورد وليام هيج في صحيفة التايمز، حول الأزمة التي يتعرض لها حالياً رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون.

كنت منهمكاً في تتبع التحليل، حين رأيت الصورة. صورةٌ صغيرة في زاوية من المقالة، تجمع بين السيدة مارجريت ثاتشر وزوجها السير دينيس، وهما جالسان في مقعد خلفي في سيارة، سوف تنقلهما في رحلة إلى منزلهما، بعد أحد عشرعاما قضياها في 10 داوننج ستريت. لا أعلم لماذا لم تلفت انتباهي الصورة منذ البداية. ربما لأنني رأيتها من قبل عدة مرات. أو ربما لأني كنت حريصاً على معرفة ما سيقوله وزير خارجية، وزعيم سابق لحزب المحافظين، حول أزمة عاصفة، من الممكن أن تطير برأس رئيس الحكومة.

الصورة تلك أرجعتني 30 عاماً إلى الوراء. كنتُ، وقتئذ، جالساً على كنبة في غرفة المعيشة، في منزلي بمدينة برايتون، أتابع وقائع خروج السيدة ثاتشر وزوجها من مقر رئاسة الحكومة، بعد تقديم استقالتها وخروجها من الحكم. مساءٌ تاريخي لا يُنسى. أضواء الكاميرات وضجيج الصحافيين. السيدة ثاتشر، خرجت من الباب الرئيسي مرفوقة بزوجها. الزوج ذهب مباشرة وجلس في السيارة المعدة لنقلهما. السيدة ثاتشر، وقفت أمام مكبر صوت، وألقت كلمة قصيرة. تكلمت فيها بصيغة الجمع. قالت إننا نغادر 10 داوننج ستريت وقد تركنا بريطانيا في وضع أفضل مما كانت عليه حين جئنا هنا. ثم أغرورقت عيناها بدموع، فسارعت بركوب السيارة، وجلست بجانب زوجها في المقعد الخلفي. وغادرا المكان. الدموع سوف نشاهدها مرة أخرى، ضمن مشهد استقالة السيدة تيريزا ماي من رئاسة الحكومة، في الأسبوع الأخير من شهر مايو عام 2019. لكنها تختلف عن تلك التي ذرفتها السيدة ثاتشر كاختلافهما.

الصورة صغيرة الحجم. جلس السير دينيس في الجهة القريبة من المصور. في حين جلست (ماجي) على يساره، في الجهة البعيدة. من الممكن توهم رؤية شبح ابتسامة سخرية على شفتي الزوج، وهو ينظر للأمام، عبر عدستي نظارته، في حين أن (ماجي) انحنت تلقائياً برأسها للإمام قليلاً وأمالته جانباً، كي تتمكن من النظر إلى حيث يقف المصور. كانت تنظر بعينين مفتوحتين على اتساعهما.

تلك النظرة بدت لي وكأنها تتموضع في مسافة بين الحسرة والخوف. استوقفنتي، و جعلتني أعزف عن القراءة، وأطيل النظر وأمعن التفكير.

رغم أن (ماجي) كانت جالسة بعيداً، لكنها في الصورة بدت أوضح وأقرب للرائي من زوجها. السير دينيس بدا باهتاً كظل، وبعيداً رغم قربه من العدسة، مثل ممثل كومبارس في فيلم تاريخي بطلته الوحيدة (ماجي). المرأة الحديدية، التي غيرت بريطانيا، وأحدثت فيها ثورة غير مسبوقة، وفازت بثلاثة انتخابات، وخرجت منتصرة من حرب الفوكلاند، وبقيت في الحكم 11 عاماً، لمن كانت تصوب تلك النظرة؟ وهل كانت (ماجي) تقصدها أم أنها جاءت لا إرادياً، من وحي اللحظة، كشفت ما ظل كامناً في حنايا القلب، وأضاءت ما كان يعتمل في الذهن من مخاوف وأسئلة؟

النظرة تلك كانت تفيض بالمعاني، وتضيق بها العبارة. تحتل فيها الحسرة مساحة لا بأس بها، ويشاركها الباقي إحساس بخوف: مما؟ ربما من مستقبل مجهول، بلا أضواء.. مغمور في عتم نسيان. تعيش فيه وهي تقتات على ذكرياتها، وما خسرت من مجد لن يعود، تأكله، كل الوقت، حسرتها قطعة قطعة، في لحظات الوحدة، بين جدران بيت، لم يبق فيه سواها ودينيس.

تلك النظرة ذكرتني بأخرى مختلفة، وشديدة الخصوصية، وباعثة على الحزن. كلما أتذكرها أحسّ وكأن جزءاً بداخلي يتهشم شظايا. كان ابني الصغير يرميني بها، كلما انتهت زيارتي الأسبوعية لهم. كنتُ أعود به مع أخويه الأكبر بسيارتي إلى قرب المنزل. كان أخواه يغادران السيارة مسرعين إلى البيت. في حين يتلكأ هو في المغادرة، ويحرص على أن يظل في المؤخرة، يسير ببطء متعمد. ملتفتاً برأسه نحوي من حين إلى آخر، ليرميني بها.

مازلت أتذكرها. كنت أحسّها كسهم ناري يخترقني. كان صغيراً. ولم يعرف السبب وراء عدم خروجي من السيارة والعودة معه إلى البيت. كنت أرى السؤال في عينيه، ولم يكن لدي الشجاعة لأخرج من السيارة وأواسيه قليلاً، لأني في حقيقة الأمر كنتُ، آنذاك، أحوج منّه إلى من يواسيني. لكن تلك حكاية أخرى.