Atwasat

الحنين إلى الخلاء

سالم العوكلي الثلاثاء 25 يناير 2022, 12:00 مساء
سالم العوكلي

ترددت مفردة (الخلاء) ومقابلها (الدوج) كثيرا في التراث الشعري الشعبي بكل أجناسه، حيث الخلاء غالبا ما يكون الملاذ من ضغوطات الحياة الاجتماعية والعاطفية، والدوج بمعني المحيط أو الزحام يشكل عبئا وضغطا على الإنسان الراغب أحيانا في الاختلاء بنفسه، وعند البعض يرد الحنين إلى الخلاء بشكل مؤقت تستعيد فيه النفس طاقتها والروح صفاءها، وعند البعض يرد كحلم بالعيش الدائم بعيدا عن صخب الحضارة وضغوط الحياة اللاهثة.

يقول شاعر العَلَمْ يونس بومريم: الناس على الخلا يا عين لو كان مي ملايا ما رمت. بمعنى لو ما لاذ الناس بالخلاء لولا امتلائهم بالقلق. بينما الشاعر سعد عبدالعالي يقول: بزعلي يا زمان عليك ما نريد دوج رامي عالخلا. شكل الهيام بسكينة الخلاء كملاذ من القلق حيال الفقد وفكرة الموت والزحام السلبي شاغلا في نصوص الشعر الشعبي وشعر العلم خصوصا، الذي يعن لي أن أسميه شعرا بدل غناوة لأنه في الأصل نص شعري مكثف، ولأنه شهد تطورا ملحوظا في العقود الأخيرة، وعالج باقتضاب أسئلة وجودية من قبيل ارتياب شعر من ركن معتم تلصص عليه في عقله: يقول الشاعر عيسى مشري: تباوعتها ريّبِتْ .. العقل فيها رفة امظلمة.

يشبه شعر العلم قصائد الهايكو الشعبية اليابانية التي أحالتها الترجمة المتكررة وصولا للعربية إلى نصوص شعرية فصيحة، استلهمها فيما بعد شعراء الحداثة اليابانيون وشعراء من جميع اللغات، ما يجعلني الآن أعمل على نقل مختارات من غناوة العلم إلى ومضات شعرية فصيحة دون الإخلال بمضمونها الثري.

أتابع في أفلام وثائقية عديدة مغامرات أشخاص كانوا في مناصب عليا، أو يملكون شركات كبرى، وناجحين جدا في مهنهم في قلب الزحام في المدن، قرروا دون أن يكتبوا شعرا أو نثرا، أن يتركوا كل شيء خلفهم ويلوذوا بالخلاء في أحراش أو جزر نائية، واصفين مدى ما يحسون به من سعادة وسكينة بعيدا عن المنغصات، وبعضهم يشكو بعض الوحدة التي يتغلب عليها بالحوار مع الطبيعة وكائناتها، بعضهم حافظ على وسائل تقنية تربطه بالعالم الخارجي، والبعض تخلص منها تماما واكتفي بالاحتكاك المباشر بمجتمعه الجديد، الصغير والبدائي.

وجميعم يرسل رسائل لمن يعانون من أمراض العصر، القلق والاكتئاب، أن يلتحقوا بهم، ومنهم من مشترك في منصة تواصل اجتماعي، يتابعه أعداد غفيرة ويطلعون على حياته اليومية في الخلاء، معبرين عن إعجابهم بخياره في الوقت الذي لا يستطيع ان يحاكيه فيه الكثيرون، لأنه في النهاية خيار صعب، والتأقلم معه بعد العيش في رفاه المدن وضجيجها ليس سهلا.

من جانب آخر، ترتكز الفلسفة الرواقية على أسئلة مهمة تتعلق بهذا القلق الوجودي والبحث عن نوع من السلام، وأفكار تتعلق برهاب الحياة القصيرة والفناء الذي يتبعها. في كتابه الشيق "تاريخ موجز للفلسفة" ترجمة نجيب الحصادي، يتطرق المؤلف نايغل وربروتن إلى تلك الحوارات الفلسفية في الشرفة الأثينية التي بسببها سُموا جماعة الرواق أو الرواقيين، حيث كانوا يقترحون علاجا فلسفيا لأمراض مثل الاكتئاب أو الوسواس أو البارانويا أو لحالات ضغط قوية من اليأس ومن الحزن الذي قد يصل بصاحبه إلى الانتحار.

كتب سينيكا Seneca، وهو مروّج عظيم للرؤى الرواقية، حول ضروب من هذ القلق الذي لاحق الإنسان على مدى وعيه بوجوده وبالزمن فوق الكوكب، مثل قِصَر الحياة، والهلع من الموت، والجدوى من وجود كائن عاقل وفانٍ، وقبله قال اليوناني القديم هيبوقراطيس "الحياة قصيرة، والفن طويل. غالبا ما يأمل كبار السن الذين يحسون بدنو أجلهم في بضع سنين أخرى بحيث يتسنى لهم تحقيق ما رغبوا فيه حقيقة في الحياة. ولكن غالبا ما يكون الوقت متأخرا فيشعرون بالحزن حول ما كان له أن يكون.

الطبيعة قاسية في هذا الجانب. ما إن نكون على سيطرة تامة على الأمور، حتى نموت.". لكن سينيكا لم يتفق مع هذه الرؤية، ويفسر وربروتن سر معارضته بكونه "مثل سيسرو يقوم بأشياء كثيرة: لقد كان يجد وقتا لكتابة المسرحيات، كما كان سياسيا ورجل أعمال ناجحا، فضلا عن كونه فيلسوفا.

لا تكمن المشكلة كما رآها في قصر حياتنا، بل في سوء استخدام معظم الناس للوقت المتاح لهم فيها. مرة أخرى، الأمر المهم عنده هو موقفنا من الجوانب المحتمة من الظرف البشري.

يجب علينا ألا نشعر بالغضب بسبب قصر الحياة، بل علينا أن نستثمرها أفضل استثمار.

وقد أشار إلى أنه كان لبعض الناس أن يهدروا ألف سنة بالسهولة التي يهدرون بها الحياة التي يعيشون. وحتى لو عاشوا ألف سنة لربما اشتكوا من قصر الحياة. الواقع أن الحياة عادة ما تكون طويلة بما يكفي لإنجاز الكثير، طالما قمنا بالاختيارات الصحيحة: إذا لم نهدرها في مهام لا جدوى منها. البعض يطارد المال بطاقة تحول دون قيامهم بالكثير غيرمطاردته؛ بعض آخر يقع في شرك إمضاء كل وقت فراغهم في شرب الخمر وممارسة الجنس.".

عادة ما نحس بقيمة الوقت بعد أن نبلغ من العمر عتيا، وأثناء جردنا للذاكرة نطرح السؤال المقلق: هل قمنا بما يجعل الحياة تستحق وجودنا فيها، أو تستحق السرد؟ وربما هذا الإحساس هو ما يجعل الكثيرين يقومون في حياتهم بمغامرات خطرة، أو بأعمال إنسانية تطوعية تجعلهم راضين عن تجربة هذا الزمن الذي أتيح لهم.

"إذا لم تكتشف هذا إلا بعد أن أصبحت هرما، سوف يكون الوقت متأخرا، أو هكذا اعتقد سينيكا. الشعر الأشيب والتجاعيد لا يعنيان أن المرء قد أمضى وقتا طويلا في القيام بأي شيء ذي قيمة، على الرغم من أن بعض الناس يسلكون كما لو أن الأمر كذلك. من يبحر في سفينة تتقاذفها رياح عاصفة لم يكن في رحلة. كل ما في الأمر هو أن المقادير تلاعبت به كثيرا.

وكذا شأن الحياة. فقد السيطرة، والانجراف مع الحوادث دون تخصيص وقت للخبرات الأكثر قيمة ومعنى، يختلف كثيرا عن العيش حقيقة.". كثيرا ما أفكر في من يرتبكون وهم يشرعون في كتابة مذكراتهم أو سير حيواتهم، متسائلين: هل ثمة ما يستحق الذكر؟ أو هل ستكون هذه السيرة مفيدة للآخرين، أو للتاريخ؟. ويغدو الالتفات إلى الخلف بعد سنين طويلة صعبا بقدر التفات شخص مصاب بتخشب في فقرات عنقه.

غير أن الكثيرين يبدءون المغامرة وكثير منهم تتكشف له أشياء ما كان يتصورها، وكأنه يكتب سيرة شخص آخر، لذلك الخوف من ذكرياتنا مرتبط بنوع الحياة ومدى ثرائها: "من بين فوائد عيشك حياة جيدة ألا تخاف من ذكرياتك حين تصبح هرما. إذا ضيعت وقتك، قد لا ترغب حين تنظر إلى الوراء في التفكير في الكيفية التي أمضيت بها حياتك، لأنه من المرجح أن يكون من المؤلم جدا التأمل في الفرص التي ضاعت منك. هذا في تقدير سينيكا ما يجعل كثيرين من الناس منشغلين بالأعمال التافهة، فهو طريقة في تجنب الحقيقة فيما يتعلق بما فشلوا في القيام به.

وقد حض قراءه على النأي بأنفسهم عن الجموع وتجنب الاختباء عن أنفسهم بجعل أنفسهم مشغولين.". كيف ينبغي علينا إذن، حسب سينيكا، إمضاء وقتنا؟ المثال الرواقي هو "أن تعيش في عزلة، بعيدا عن الآخرين. أكثر سبل العيش ثراء، فيما أقر بأسلوب متبصر، هو دراسة الفلسفة. هذا أسلوب في العيش حقيقة.".


في آخر حلقة من برنامج "رحلة عبر الذاكرة" الذي يقدمه، في قناة الآر. تي. الروسية العربية، المحاور المثقف: خالد الرشد، استضاف أحد المختصين في مرض الاكتئاب، وقد أشار إلى إحصائيات عالمية مفزعة حيال هذا المرض وما تمخض عنه من حالات انتحار تعد بعشرات الآلاف، بينما يتعاطي حوالي 52% من البشر مضادات الاكتئاب في المجتمعات التي تتمتع بإحصائيات ومتابعة لهذا الوباء النفسي، وللأسف حين تنتشر لدينا حالات الانتحار نربطها بالسحر وبالجن، لأننا مازلنا في طور الخرافة تجاه ما يجد علينا من ظواهر، بينما في العالم المتطور حلت العيادات النفسية بدل مقرات المشعوذين حين وصل العلم إلى معرفة الكثير من أسباب الأمراض النفسية وعلاجاتها، وبعد ما تحقق من تقدم كبير في تشريح الدماغ البشري ومعرفة ما يلم به من خلل عضوي، يتعلق بالهرمونات أو بالتفاعلات الكيميائية أو الكهربائية في الدماغ.

غير أنه بعيدا عن عنت العلاج النفسي المكلف والمعقد، تظل ظاهرة النزوح صوب الخلاء والعيش في عزلة علاجا وقائيا يختاره البعض للوقاية من أمراض العصر. الحنين إلى الطفولة، طفولة الشخص وطفولة العالم لم تعد مجرد مجاز شعري أو استعارة في نص أدبي، لكنها بدأت تلح على الكثيرين كي ينزحوا إليها بأجسادهم وطرق عيشهم.

يقول الشاعر فيصل بوغالية: واخذ الخلا خلوني ... القيت في الخلا راحة تحيد غبوني ... مليت م الونس".