Atwasat

18- (المندوه) التجاري

محمد عقيلة العمامي الإثنين 24 يناير 2022, 11:27 صباحا
محمد عقيلة العمامي

«ما أبأس من يبدأ حياته من دون جنون!» (كازانتنزاكيس)
كانت دفعات خريجي الجامعات الليبية مطلوبة للعمل مع الدولة، وسريعًا ما يتم تعيينها في المجالات كافة، لعل ذلك استمر حتى سنة 1976، وإن كنت أجزم بذلك حتى سنة 1973، ففي هذه السنة وتحديدًا يوم 21 فبراير، تحسرت كثيرًا لأنني لم أستطع مشاركة الكثير من عائلات مدينتي قي مصابهم المؤلم الحزين جراء إسقاط إسرائيل لطائرة ركاب الخطوط الجوية الليبية فوق صحراء سيناء، فقد كنت مسجونًا رفقة مجموعة من خريجي الجامعة الليبية من كليتي الآداب والتجارة، لأن رئيس الوزراء، آنذاك، عبدالسلام جلود أصدر أوامره بسجن كل الذين تخرجوا في الجامعة الليبية ولم يلتحقوا بوظائفهم بحسب التوزيع الذي أقرته الدولة.

ولكن لم يمض أسبوع حتى أصبح حجزنا، ليس سجنًا بالمعنى المفهوم، أو ذاك الذي عرفناه بعد سنة 1976، فلقد كانت أمور دولة سبتمبر في بداياتها، ولذلك لم نسجن في السجن الرئيسي، فحينها لم يكن في بنغازي سوى سجن واحد! ولكن الأمر تغير فيما بعد، وأعدت سجون صغيرة هنا وهناك، كانت في الغالب بيوتًا أو فيلات في ضواحي بنغازي، ولكنها بالفعل سجون، فلقد سجنت، رفقة المهندس خليفة الجروشي، في زنزانتين، منفصلتين، بمنطقة الهواري لا تتجاوز مساحة أي منهما 1X2 متر بسبب تهمة كيدية. لم نخرج منهما طوال أسبوعين إلاّ للتحقيق، حتى تأكدوا من براءتنا!

احتجزونا، في قسم شرطة الحدائق، في غرفة أعدت لنا جميعا، وظللنا بها حوالي شهر، واستطاع رجل الأمن الشريف سعد بن عمران بتعاونه معنا، من بعد أن تأكد من أن الموضوع مضحك، من جعل ذلك الحجز (زردة) حتى أن أصدقائي، منهم خليفة الفاخري، الذي كان يدخن سجائر (مالبورو)، وكنت أدخن سجائر (كنت)، جاءني بسيجارة واحدة منها، ملفوفة في ورقة كتب عليها بيت الشعر، الذي يقول: «يجود علينا الخيرون بمالهم، ونحن بمال الخيرين نجود»، وجاءني صديقي مصطفى الكرامي بالكثير من زجاجات العصائر المتنوعة، وبمساعدة طيب الذكر المرحوم سعد بن عمران، أصبحنا نأكل من مطعم شهرزاد الذي كان حينها أفخم مطاعم بنغازي، فلقد تظاهرنا بالإضراب عن الطعام، باتفاق معه، فأخبر رئاسة الوزراء بذلك وأفهمهم أن رد فعل الشارع قد لا يكون جيدًا. خصوصًا وأن إضرابهم بسبب التموين الذي كان مجرد علبة سردين ومثلها حليب ورغيف، فسمحوا له باختيار مطعم لتمويننا، والنتيجة أن السجن أصبح (زردة) وكرنفال أكل وصل حد خرفان محشية! فبعض المسجونين يعملون بمصنع الأسمنت، الذي كان حينها المهندس على الغرياني رئيسه، فأكرم موظفيه وبالطبع البقية بهذا الترف، وكان من المجموعة أيضًا موظفون بشركة ليبيا للتأمين، ما إن عرفوا بما قام به مصنع الأسمنت حتى قاموا بمثله وأكثر قليلًا، فلقد أرفقوا معه حلويات! ولكن تقييد الحرية له مغبته، ومرارته. علمًا بأن المرحوم سعد بن عمران أخذني لحضور مباراة قدم مهمة في ذلك الوقت ما بين الأهلي والنصر!

والحكاية ابتدأت من عودتي من القاهرة عندما حُجز جواز سفري، وأقبل نحوي شاب، وأخبرني أنه من أمن الدولة وأنني مطلوب، وبالتالي عليَّ أن أذهب معه. لم يكن آنذاك ما يخيفني، فأنا أعلم أنني لم أقم بأي عمل سياسي أو إجرامي، ثم إن الزيارات الفجرية لم تكن قد بدأت بعد! ثم ارتحت كثيرًا عندما علمت أننا في طريق إلى الجهاز الذي يترأسه صديقي سعد بن عمران، ولقد سردت الحكاية بتفاصيلها في كتابي (قهوة سي عقيلة). وانتهى الأمر بضرورة الالتحاق بوازرة العمل في طرابلس، ولكن صادق النيهوم رحمه الله توسط لي عند السيد جلود، لأكون مدرسًا ببنغازي. وبالفعل مارست التدريس لأشهر بمدرسة العمال الليلية، وسريعًا ما تطورت (سلطة الجماهير) وتم حينها، وللأسف الشديد، إعفاء الدكتور رؤوف بن عامر من عمادة كلية الطب، وأعادني مسجلًا لها، لأني كنت مسجلا لها وتركتها هكذا من دون استقالة وإنما انقطاع عن العمل، ولقد تصوروا أن انقطاعي كان بسبب إعفاء منه.

والحكاية باختصار، أن عملي كمسجل لكلية الطب البشري لم تستمر سوى أشهر، أعتقد أنها تجاوزت سنة بأشهر قليلة. فبعدما تخرجت كُلف الدكتور رؤوف بن عامر بتأسيس الكلية، وظل يبحث وينتقي أطقما لإدارتها، كان محمود شمام حينها مسئولا في إدارة الجامعة، وعلاقته طيبة بالدكتور رؤوف وهو من رشحني له، وبدأت العمل، وكانت الدفعة الأولى متميزة، شباب متحمس في مثل سنى ووجدت نفسي وكأنني ما زلت طالبًا معهم، وإن كنت قد وضعت صورة ابني هيثم في إطار ملون ووضعتها على عادة الأوروبيين على مكتبي! وانسجمت كثيرًا مع أطقم التدريس والطلبة، والوفود التي لم تنقطع زياراتها من مصر، وأيضًا بصداقة وثيقة مع الدكتور رؤوف استمرت حتى رحيله.

كنت قد وفرت رصيدًا في البنك الذي كنت أتعامل معه، أثناء أعمالي الحرة سواء في التجارة أو في المقاولات، ولما طلبت مني إدارة الجامعة رقم حسابي أعطيتهم الرقم نفسه، وبدأت مرتباتي تحال إلى حسابي شهريًا، وعلى عادة الأوروبيين، كلما احتجت مبلغا أكتب به صكا، إلى أن حدث ذات يوم أن عاد صكي مظهرا بمراجعة صاحب الحساب، وذلك يعني: «لا يوجد رصيد» فذهبت منفعلا إلى المرحوم جاري وصديقي سالم رضوان، رحمه الله، كان حينها مديرًا لمصرف الوحدة متسائلا كيف يحدث ذلك وحسابي به الشيء الفلاني، ناهيك عن مرتباتي! وسوف أخبركم، في الحلقة القادمة عما قاله لي من بعد أن وضع قلمه على مكتبه، ونظر إليّ ساخرًا !؟