Atwasat

أسواقٌ رائجة لبيع الأوهام

جمعة بوكليب الخميس 20 يناير 2022, 10:34 صباحا
جمعة بوكليب

تجارةً بَيع وشراء الأوهام ليست جديدة أو غريبة. وأساس أسواقها الطمع. وأعمدتها الاحتيال والنصب. والبشرية في حقب تطورها المختلفة، عبر التاريخ، ابتدعت أسواقا لكل البضائع والسلع. وجاء وقتٌ كانت تقام فيه أسواق نخاسة، يُباعُ فيها البشر ويُشترون كالأنعام. أسواقُ النخاسة اختفت بأشكالها المعروفة، وظهرت في أشكال جديدة تتماشى وروح العصر. ورغم تغيّر الدنيا، بقي الطمعُ كامناً في نفوس أهلها. و ازداد، مع مرور الوقت، تطور أساليب النصب والاحتيال.

ومع التقدم العلمي الهائل الذي حققه البشر، خلال نصف القرن الأخير، تكاثرت وتنوعت أسواقُ بيع الأوهام، في تناسب طردي مع تزايد الطمع. وما دعاني للخوض في هذا الموضوع ما تابعته، في الأيام الماضية، من تقارير، في وسائل إعلام غربية، تتعلق بقضية سيدة أعمال أمريكية اسمها "اليزابيث هولمز" أدانتها، في أول أسبوع من العام 2022، محكمة أمريكية، بعد أن ثبت جُرمها في عملية احتيال وتآمر لسرقة أموال مستثمرين. السيدة هولمز، تمكنت، خلال سنوات قليلة، من إقناع أصحاب رؤوس أموال ضخمة معروفين وناجحين من استثمار أموالهم في شـركة أسستها تحت اسم " ثيرانوس - Theranos" وتحديداً بعد فترة قصيرة من هجرها الدراسة الجامعية، في جامعة ستانفورد المشهورة، وعمرها لا يتجاوز 19 عاماً، بهدف إحداث ثورة في الرعاية الصحية عالمياً، حسب زعمها. وعيّنت في مجلس إدارتها شخصيات مرموقة في عالم الأعمال ومن أهل السياسة. الثورة الموعودة لم تحدث بالطبع. وما حدث، واقعياً وفعلياً، كان عملية نصب واحتيال غير عادية، بكافة المعايير، وبتداعيات سلبية على مستقبل الاستثمار في قطاع الاختراعات العلمية.

يقول مثل عربي " ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع." والسيدة هولمز طارت محلقة في أعلى سماء، لسنوات قليلة، وارتفعت معها عالياً أسهم شركتها في أسواق المال الدولية، حتى قدرت قيمتها- قبل انهيارها في عام 2018 - بـ 9 مليار دولار أمريكي. لكنها وقعت، فجأة، من عليائها على أرض صلدة، محدثة فرقعة هائلة في عالم الاستثمارات وفي وسائل الإعلام. وتبيّن للمستثمرين أنهم سلموا قيادهم إلى امرأة بلا مؤهلات علمية، وظلوا يلهثون وراء سراب كاذب. وأن ادعاءها بتوصل شركتها إلى اختراع آلة لتحليل الدم، أطلق عليها اسم "أديسون"، قادرة على كشف العديد من الأمراض، عبر تحليل قطرات قليلة، ليس سوى وهم مغلف بورق تغليف جميل، وملفوف بأشرطة حريرية ملونة، استطاعت أن تقنعهم بشرائه، من دون حاجة لتقديم دليل أو برهان علمي يثبت فعاليته المزعومة، بدعوى السرّية. وابتلعوا الطعم، وهم في ذلك مثلهم مثل من يشتري سمكاً في بحر. وأن كل ما تعلموه من خبرات، وما مرّوا به من تجارب في حيواتهم المهنية، لم يجدهم نفعاً.

الحكايةُ مثيرةٌ للأسى والحزن. وليس مبعث ذلك أن مستثمرين خسروا أموالاً ضخمة، أو أن سيدة صغيرة السن وجميلة سوف تقضي بقية عمرها في السجون. بل أكبر من ذلك، وأعظم تأثيراً على المدى الطويل. والسبب، كما يؤكد مختصون، أن عملية الاحتيال وما سببته من خسائر للمستثمرين سوف يؤديان طبيعياً إلى إحجام المستثمرين مستقبلاً عن المجازفة بالأموال لدعم تجارب على اختراعات علمية، في حاجة ماسة للدعم، يقوم بها علماء متخصصون وموهوبون، خاصة في قطاع الرعاية الصحية. وحين يتوقف المستثمرون عن دعم تلك الاختراعات، وتقديم السند المالي للمخترعين فسوف يؤدي ذلك إلى نتائج سلبية تطال تأثيراتها التقدم البشري في مختلف القطاعات. إذ لا سبيل إلى تقدم الاختراعات الإنسانية من دون إنفاق أموال. وأصحاب رؤوس الأموال كانوا دوماً الوقود الذي يجعل قطار التقدم الإنساني يواصل رحلته بلا توقف. وبالتأكيد، فإن أصحاب الأموال عادة لا يعودون من تلك المغامرات الاستثمارية خاويي الوفاض.

ما اطلعت عليه من تقارير يؤكد على أن الحادثة لم تمر من دون تمحيص أو شكوك. كثير من العلماء والمختصين رفعوا أصواتهم مشككين ومحذّرين. بعض الصحف الأمريكية، أيضاً، نشرت تحقيقات وتقارير تشكك في صحة المزاعم. لكن صيحاتهم لم تجد أذانا صاغية.

تأثير الفضيحة على مستقبل الاستثمار في المخترعات العلمية، استناداً إلى معلقين، لن يكون سلبياً تماماً. ويجادلون بأن ما حدث أمر متوقع، لأن المحتالين لا تخلو منهم صناعة. لكنه لن يوقف المستثمرين عن المجازفة. ولو أن التمحيص والتدقيق حدث لكل اختراع علمي، لما وُجدتْ السيارات، ولما اخترعتْ الهواتف الذكية، أو أاكتشفتْ المضادات الحيوية. وأن باعة الأوهام، من محتالين ونصابين، لن يفلحوا في إيقاف قطار التقدم الإنساني. ونحن، بدورنا، نتمنّى أن يكونوا محقين.