Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا 1908-1969 (19)

سالم الكبتي الأربعاء 19 يناير 2022, 10:47 صباحا
سالم الكبتي

.. وساندت الصحف في الداخل مطالب الشعب في الجلاء وباركت جهود البرلمان والحكومة في الشروع في خطوات المفاوضات. وتولت ذلك على مدى أيام وأشهر الصحف المستقلة وفي مقدمتها صحيفتا البلاغ والشعب (أغلقتا في ما بعد ولم يستمر صدورهما عام 1964) والحرية والحقيقة والعمل والأيام، وكذا الصحف الحكومية وهي طرابلس وبرقة وفزان.

ونشرت تلك الصحف العديد من المقالات والقصائد والتحقيقات مع المواطنين في كل المناطق لإظهار مشاعرهم وإنجاز الحلم الوطني الذي يسكن في الصدور عند الجميع بلا إستثناء. وتابع المواطنون بكثير من الأهتمام جلسات البرلمان العلنية ومناقشاته عبر الصحف وفي الإذاعة خلال نشراتها أو طوال بثها اليومي.

والواقع أن البرلمان بأعضائه الذين تميزوا بالحضور والمناقشة المستمرة والمتابعة لأحوال المواطنين ومعاناتهم في بعض المناطق، خاصة أماكن الدواخل، اقترب من معالجة هذه المشاكل وحاول أن يضع لها الحلول. وشهدت جلسات البرلمان تلك الأعوام وخلال دوراته تشكيل اللجان داخله لمتابعة العديد من الموضوعات مثل اللجنة الدستورية والمالية والخارجية ولجنة المحاسبة ولجنة الصحة والمعارف والشؤون الاجتماعية ولجنة الشؤون الخارجية.. وغيرها.

هذه اللجان تتابع وترصد أداء الوزارات وتستلم التقارير ويرد إليها كل مايتصل بهذه المسائل وتعقد اجتماعاتها وتخلص إلى نتائج ما تصل إليه في النهاية إلى البرلمان والحكومة. وتضمنت الجلسات إضافة إلى تشكيل اللجان: الأسئلة للوزراء وردودهم والاستجوابات والتقارير والاقتراحات والعرائض والشكاوى من المواطنين التي ينظر فيها المجلس ويحيلها إلى جهات الاختصاص في الدولة للبت فيها مع متابعة جوانبها. وعرض الميزانيات وخطط التنمية ومناقشتها باستفاضة والموافقة عليها ومناقشة مشاريع القوانين وإرسالها إلى الملك للمصادقة عليها. وناقشت الجلسات أيضا الكثير من القضايا المحلية والإقليمية وتصدرت ذلك الامتيازات والآبار البترولية والشركات الأجنبية والجالية الإيطالية وتعويضات الدولة الليبية عن فترة الاحتلال والحرب والنقابات وأمور العمال والمطبوعات وحرية الصحافة وقضية الجزائر والموقف من فرنسا والكونغو وقاعدة الملاحة واستفزازاتها لجيرانها المواطنين والظواهر الأخلاقية والربا والخمر وأحوال المزارعين وأصحاب المهن وصغار الموظفين.. والعديد من القضايا والموضوعات المستجدة والطارئة. صحيح أن بعضها ظل معلقا لم ينجز، لكن حسب للبرلمان أنه تولى بواسطة أعضائه مساءلة الحكومة وملاحقة أعمالها تحت كل الظروف واستفاد النواب والشيوخ بالطبع من الحصانة البرلمانية التي منحهاها لهم القانون. وكانت مضابط المجلس تنشر سنويا عن كل دورة في مجلدات وتوزع على الأعضاء ومرافق الدولة ومن يهمه الأمر في الرأي العام واحتوت تلك المضابط وقائع الجلسات والمناقشات بين الحكومة والبرلمان دون أية تحفظات، وتعتبر الآن وثيقة تاريخية مهمة لكل دارس وباحث في الحياة النيابية الليبية. وعلى سبيل المثال في فبراير 1960 عرضت على مجلس النواب رسالة مطولة من مجموعة من المسجلين في دائرة القبة يمثلون بعض الشرائح القبلية وتتعلق بالطعن في فوز أحد المرشحين بتلك الدائرة في الانتخابات التي جرت ذلك العام للدورة الجديدة لحصوله على الجنسية الإيطالية بموجب مرسوم ملكي إيطالي عام 1934 وقد أحال المجلس ذلك الطعن إلى اللجنة التشريعية وكان رئيسها النائب عبد الله السحيري ومقررها النائب محمد بشير المغيربي ورأت في اجتماعها المنعقد في طرابلس يوم الثالث من يناير 1961 أن الطعن لا يقوم على أي أساس ورفضت الطلب وقررت إبقاء عضوية المطعون فيه زميلهم بالمجلس دون مساس .

وظل البرلمان الليبي تلك الأعوام عضوا في اتحاد البرلمانات العالمي وشارك في عقد اجتماعاته كما قام العديد من النواب والشيوخ الليبيين بزيارات رسمية إلى الخارج بدعوات من الكونغرس في الولايات المتحدة وإلى بريطانيا وألمانيا. ومن أهم القضايا المحلية البارزة التي تداولها البرلمان موضوع طريق فزان أو ماعرف بأزمة طريق فزان. فقد فكرت الدولة أثناء تنفيذ مشروعاتها ربط ولاية فزان بالساحل عبر طريق يمتد من منطقة أبوقرين إلى الجنوب في مسافة طولها نحو ستمائة وخمسين كيلو مترا. تعاقدت في أواخر عام 1958 مع شركة ساسكو التي يملكها عبد الله عابد السنوسي ورسا عليها العقد لتنفيذ ذلك المشروع الحيوي الذي ينتظره أهالي فزان منذ أمد بعيد، وكان من المقرروفقا لشروط التعاقد بين الحكومة والشركة أن ينتهي العمل بإنجاز الطريق بعد ثلاث سنوات، أي عام 1961. وبمجرد رسو العقد على الشركة استلمت من الحكومة مبلغ مليون وتسعمائة جنيه ليبي تقريبا. وبعد فترة وجيزة من التنفيذ طالبت الشركة من خلال مالكها الحكومة بمبلغ إضافي قدره أربعة ملايين جنيه لاستكمال المشروع.

هنا حامت الشبهات والشكوك والظنون مرة واحدة تجاه مايجري في السر بين الحكومة والشركة وتسرب ذلك بطريقة أو أخرى إلى صحيفة المساء التي يصدرها في طرابلس السيد سليمان دهان، كشفت عن المستور في عددها الصادر بتاريخ العشرين من أغسطس 1960 وتناولته بالقدر نفسه دعما لها.. صحيفة الليبي في طرابلس وصحيفة الزمان في بنغازي. كان رئيس الحكومة وقتها السيد عبد المجيد كعبار وقد شغل أول رئيس للبرلمان قبل ذلك عقب الاستقلال في أول دورة نيابية عام 1952.

في تلك الفترة كانت رائحة النفط تقترب من الأنوف والشركات الأجنبية تكاثر وصولها إلى البلاد للتنقيب عن السائل الأسود الذي بدأ يغري الجميع وأقبلت مع ذلك ثقافة جديدة من العلاقات والمصالح بين المسؤولين ومجموعة من الأفراد في البلاد وطغت في الواقع تلك المصالح الشخصية على مصالح الوطن وبدأت تتداعى ظاهرة الفساد والانحراف لدى البعض في الدولة مسؤولين ومواطنين. والواقع أن الملك نفسه في هذه الحالة سبق الكثير في التنبيه ولفت الأنظار والتحذير مما يحدث، فأصدر في الثالث عشر من يوليو 1960 منشوره الشهير.. (لقد بلغ السيل الزبى) وتردد تلك الأيام أن الملك في هذا المنشور الحاد والصريح ربما يشير إلى رؤوس كبيرة في الحكومة وبالقرب منه في الخاصة الملكية وبعض أصحاب الشركات المتنفذة. كان الملك في المنشور يوجه كلامه إلى رئيس الحكومة والوزراء والوكلاء وإلى الولاة في طرابلس وبرقة وفزان والنظار والمتصرفين وكل المسؤولين، فقد طرق سمعه وفقا للمنشور: مايصم الأذان من سوء سيرة المسؤولين في الدولة من أخذ الرشوة سرا وعلانية والمحسوبية القاضيتين على كيان الدولة وحسن سمعتها في الداخل والخارج مع تبذير أموالها سرا وعلانية. هذا النداء الملكي بعد طول صمت لعله شجع أصحاب الرأي والصحف والمهتمين بالشأن الوطني على التجاوب معه والتشديد على مظاهر الفساد المالي الذي لوحظ انتشاره على نطاق واسع في البلاد والدعوة مع ما صرح به الملك إلى التصدي لذلك الفساد والقضاء عليه بكل صوره وأشكاله .

كان البرلمان في عطلة فالتقط رغم ذلك مايتردد في الصحف والشارع حول طريق فزان. نهض مجموعة من نوابه بالمسؤولية تصحيحا للأخطاء وتقويما للاعوجاج. كان في مقدمة هؤلاء النواب: عبد المولى لنقي وبشير المغيربي وعلي مصطفى المصراتي ومحمود صبحي ومفتاح شريعة ويونس عبد النبي بالخير وعبد السلام التهامي وغيرهم ممن يمثلون داخل البرلمان صوتا وطنيا يعارض الأخطاء وتداولوا الأمر في عدة جلسات مشهورة وشعرت خلالها الحكومة بالحرج والضيق.

وبدأت الخطوة الأولى برفع مذكرة منهم إلى الملك يطالبون فيها بدعوة البرلمان بمجلسيه الشيوخ والنواب للانعقاد في جلسة إستثنائية للنظر في تجاوزات الحكومة مع الشركة. واستندوا إلى أن الدستور في مادته 169 ينص على أنه: (لايجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة في سنة أو سنوات مقبلة إلا بموافقة مجلس الأمة) وهذا الشرط الدستوري لم يراع في الأساس. والواقع أن الملك استجاب ووافق من فوره على ما ورد في مذكرة أولئك النواب فأصدر مرسوما في منتصف سبتمبر بدعوة المجلس للانعقاد استثنائيا وحدد يوم الثالث من إكتوبر 1960 موعدا لذلك. وحدث بعد صدور المرسوم من ارتباك فلم يحضر رئيس الحكومة جلسات البرلمان وحاول استمالة بعض النواب المعترضين على الدخول في تشكيلة جديدة للحكومة وقابلوا ذلك بالرفض واعتبر رئيس الحكومة في جانب آخر أن مناقشات النواب بهذا الشكل حول طريق فزان تعريض شخصي به وحاول من جهته استصدار مرسوم ملكي بحل البرلمان ولم ينجح في ذلك. أيام عديدة مرت وجلسات ساخنة في البرلمان ونقاشات وجدل لم ينته حول موضوع الطريق استمر ولم يتوقف وتجاوب معه الشارع. وللتاريخ فإن آراء النواب تلك الأيام لم تكن ضد تنفيذ مشروع الطريق ولكنها كانت تتجه نحو علاج نواحي القصور وأوجه الفساد الذي اعترى الإجراءات وجعلت منه أزمة لا بد من إزالة أسبابها. وفي جانب بعيد آخر لم يفصح عنه إلا في أضيق نطاق تردد أن الدولة كانت تود مساعدة جبهة التحرير الجزائرية في كفاحها فحملت المشروع المبلغ لكي لا يسبب ذلك حرجا لها خاصة مع فرنسا عندما يحول بصورة معلنة. ورغم ذلك استمرت المواجهة الحاسمة مع الحكومة وطالب البرلمان بسحب الثقة وحجبها تماما عنها فاستقالت تحت هذا الضغط وأدركت في النهاية أن الملك نفسه لايريد منها الاستمرار بناء على مجريات الأحداث التي وقعت. فأصدر مرسوما بتكليف أحد وزرائها بتشكيل الحكومة الخامسة في عهد الاستقلال وهو السيد محمد عثمان الصيد في السادس عشر من أكتوبر 1960 وكان في الوقت نفسه نائبا في البرلمان عن فزان.