Atwasat

فتحي الشويهدي ذو الوجه الضاحك أبدا

سالم العوكلي الثلاثاء 18 يناير 2022, 11:06 صباحا
سالم العوكلي

في مدونة سريب، نشر الصديق الصحفي والروائي أحمد الفيتوري ملفا عن درنة، العام 1996 على ما أظن، أجرى من خلاله حوارات مع شخصيات من درنة عن الفن والجمال والهوى الدرناوي، ومع الملف نشر صورة الصديق فتحي الشويهدي الذي يحبه كثيرا، واعتقدت أن الفيتوري أخطأ في إخراج الملف، لأنه لم يكن فيه لقاء مع الشويهدي ولا حديث عنه. فقال لي نشرت الصورة لأن فتحي هو أيقونة درنة. عادة ما يرافق الحديث عن درنة صورة من شلالها أو جبالها لكن الفيتوري بحنكته الصحفية والجمالية اختار صورة شخص تنعكس فيه المدينة بكل ما فيها وينعكس فيها.

في العامين الأخيرين من حياة والدته سلطانة التصق بها فتحي ولم يفارقها في شقتهما القديمة الواقعة في زقاق بشارع البحر الواصل بين قلب المدينة ومينائها، وهناك كنت أزوره دائما، وهناك سمعت حكاياته عن درنة وشخصياتها الشهيرة، عن أيام انتظار معظم سكانها لحفل أم كلثوم الشهري، وعن الأفلام التي كانت تعرض في أربع دور سينما بها، بما فيها سينما الصيفي التي تعرض في الهواء الطلق في حديقة مطلة على واديها، تحولت فيما بعد لما سمي عمارة الأوقاف، كان يحدثني عن قصصها المعلنة والسرية، وعن حكايات الحب الشهيرة فيها، وكان عالم روائي بأكمله يتشكل أمامي وهو يغوص في أعماق حاضرة غاصة بالحب والرقة والياسمين والفل والزهر المقطر والدراويش المتسكعين بمرح في شوارعها. كانت أمه رحمها الله تعاملني كأخيه الأصغر، وكلما طبخت وجبة درناوية تترك لي جزءا منها وكأني ولدها الغائب، وحين التقي بفتحي يقول لي أمي عقبتلك من غدانا أو عشانا. كانت تعد طبخة عشقتها بكل بساطتها، مزيج من القرع التي تسمى في درنة بكيوة ذائبة في حساء فول مجروش مع القديد، وما زالت نكهة تلك الطبخة على لساني. كانت روائح البيت الذي يضوع منه البخور وروائح المطبخ الدرناوي الأصيل، تعكس كل روح درنة التي بدأت تافل مع اكتساح مطابخ التلفزيون والإنترنت له، واكتساح الطعام الجاف لطبائخها الشهيرة التي تتنوع بقدر تنوع خضروات السواني التي كانت تحيل درنة إلى مدينة يتخللها الريف، أو الريف القابع في قلبها. وكلما زرت شقة الحاجة سلطانة أفهم ماذا كان يعني صديقي الفيتوري حين قال فتحي هو درنة.

عندما رحلت أمه سلطان، كان من الممكن التحديق في سحنة اليتم على وجه فتحي الذي لم يغادر طفولته أبدا، غير أن المرح لم يتخلَ عنه وإن كان مخدوشا بحزن شفيف، وفي الأيام الأولى من انتفاضة فبراير كنا نلتقي مجموعة أصدقاء في شقة الحاجة التي ما زال فتحي يتنفس روائح أمه فيها ويتغطى بردائها الملون، ولأن الكهرباء كانت دائمة الانقطاع، كان يشعل الشموع بكل ألوانها على قنينة زجاجية فتسيل الألوان عليها مشكلة لوحة رسمتها العتمة والنور الذي يتخللها، وتحولت تلك الزجاجة إلى تحفة فنية رافقت فرحنا وحماسنا وخوفنا في أيام الثورة الأولى، وقبل رحيله بمدة أحضر لي هذه الزجاجة لاحتفظ بها ذكرى لأيام لا تنسى مرت بهذه الأرض، وذكرى لفرح ملون رسمته دموع الشموع حين كان الناس يحتملون كل المصاعب التي رافقت هذه التمرد على إحدى أعتى الدكتاتوريات، وكأنهم يدركون أن للتحول ضريبة لا بد أن ندفعها مثلما دفعتها الشعوب التي انتقلت إلى أحلامها على جسر من الألم والدموع والخوف.

حدقت اليوم في زجاجة فتحي المنحوتة التي أعادتني لتلك الأيام، ودون أن أحس وجدت نفسي أكتب عن صديق الروح الذي غادر فجأة دون وداع، حدقت فيها فرأيت وسمعت وشممت ذاك البيت الذي اعتبره صديقي العزيز نجيب الحصادي أجمل مكان في العالم، كنا نتابع الأخبار عن ثورتنا التي اجتاحت كل وسائل إعلام العالم وقنواته، وحين تنقطع الكهرباء يتلمس فتحي الزجاجة ويشعل شمعة، ثم يفتح الراديو الذي لا يفارقه على قناة الشرق الأوسط التي تابعها لسنوات طويلة ومنذ أن كان صبيا مهووسا بمسلسلاتها وأغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم ونجاة ونجاح سلام وسعاد محمد وفايزة أحمد وعفاف راضي ومحرم فؤاد، وكان فتحي هو المؤرخ الدرناوي لهذه المرحلة العظيمة من الموسيقى الشرقية، وحين يختلف اثنان عن تاريخ أغنية أو مؤلف أو ملحن ما، لا بد أن يرن هاتف فتحي حتى في آخر الليل، كي يكون الحَكَم بمعلوماته عن الفن الشرقي التي لم يطلها النسيان. ورحل أخي وحبيبي فتحي دون أن يفارقه الراديو، ورحل قبل أن يتابع المسلسل المحبب له الذي تبثه قناة الشرق الأوسط كل رمضان، حيث لم يتخلف عن مسلسل واحد ولا حلقة من أي مسلسل.

قبل رحيله بيومين بعثتُ له صورة قديمة كنت قد التقطتها في حفلة تكريم الشاعر رجب الماجري بالقسم الثقافي بنادي الأفريقي العام 1993، وكانت الصورة لفتحي مع الفنان سالم بن زابيه والسيد محمد القرقني محافظ درنة السابق، والسيد عبد الحفيظ دربي. وحين زرته في البيت بعد خروجه من المستشفى قال لي كل الذين في الصورة ماتوا إلا أنا. بينما أرشيفي في الماسنجر ما زال محتفظا بآخر رابط بعثه لي قبل رحيله بساعات (أغنية خليك هنا بلاش تفارق.. الوداع . ما بقيتش أخاف ف الدنيا دي غير م الوداع) لوردة الجزائرية.

فتحي الذي رحل رفاق طفولته وصباه تباعا: عون بدر، فوزي الحبيّب، شوقي بدر، وغيرهم بدأ يشعر بالوحشة، وبدأ يحس بأصابع الموت تقترب منه، وكان يقاوم هذه الوحشة وهذا الخوف بالموسيقى والنكتة والمرح الدائم، ولأنه أحس باقتراب هذا الوحش سلم كل الأرشيف الذي لديه للصديق الموثق الأستاذ محسن البناني، ابن الموثق الأستاذ محمد البناني، وكان يعرف أن محسن الذي يزخر أرشيفه بتاريخ ليبيا لن يضيع عنده شيء.

تعرفت على فتحي، بداية التسعينيات من القرن الماضي، حين وصل إلى مقر جريدة الأفريقي يحمل رزمة من رسومه الساخرة التي كانت تحتشد بروح الفكاهة داخله وبتأثره وبالمفارقات الاجتماعية والأحداث التي تمر سريعا، وأصبح رسام الكاريكاتير للجريدة والذي كان كثيرا ما يختزل أزمة في مشهد متقشف من الخطوط البسيطة حيث لا يستخدم الكلام مع اللوحة.

وبعد توقف الجريدة بقرار من وزيرة الثقافة آنذاك شمل كل صحف الأندية، كان فتحي قد اتخذ مشهد شلال درنة أيقونته للتعبير عن كل ما يمر بالمدينة وبليبيا، ورسم لوحة أسماها (شلال درنة 96) كان فيها الشلال ينهمر بالجماجم، خلفه شمس دامعة وبومة على الجرف الصخري بجانبه، وكما في كل لوحات الشلال في المقدمة ضفدعة تعطي بظهرها شبيهة بحنظلة ناجي العلي، وكانت لوحته أبعد ما تكون عن الفكاهة وهي تشجب في ذلك الوقت مجزرة سجن بوسليم. وحين واصل الناجون من المجزرة شلال الجماجم في مدينة درنة كوجه آخر للطغيان الذي ثار عليه الليبيون، نشرتُ بتاريخ 18 نوفمبر 2013 . اللوحة على جداري في الـ«فيسبوك» ومعها هذا المنشور:

«هذه اللوحة رسمها صديقي الفنان فتحي الشويهدي بعد مجزرة بوسليم، مستوحاة من شلال درنة.. وما زالت صالحة حتى الآن لأن الناجين من المجزرة يواصلون شلال الجماجم، فهل حان الأوان لأن يستعيد الشلال ماءه وخضرته؟ وألا نكون صورة أخرى للطغيان ولابتذال حياة الإنسان. أرجوكم ليبيا منذ قرن وهي تنزف، وآن لها أن تعيش مثل العالم الذي اكتشف أن السلام هو شهوة الله على الأرض ورغبته. وهو يقول بكيت على الضحايا منكم فلا تجعلوني أبكي على الضحايا بأيديكم».

منذ فترة زارني ابنه حامد في البيت، ومعا شربنا القهوة في الشرفة المطلة على البحر التي طالما أحبها فتحي، حيث يشرب قهوته ثم نأوي إلى قبو تحت البيت صحبة الصديق رجب الهنيد، نشاهد الأفلام ونحكي عن الزمن الجميل ونسمع الموسيقى، وكان آخر فلم تابعناه معا فلم (جوكر) بطولة خواكين فونيكس، للمخرج تود فيليبس، الذي يطرح تيمة الضحك كموضوع أساسي له، حيث يحول النظام المسيطر شابا ــ كان حلمه منذ كان طفلا أن يُضحك الآخرين ــ إلى قاتل. وينتهي الفيلم بمشهد في مستشفى أركام للأمراض النفسية، حيث يضحك آرثر على نفسه حول مزحة ويخبر طبيبته النفسية بأنها لن تفهمها. يهرب من النظام، تاركا وراءه آثار أقدام مُلطخة بالدماء.

شد الفيلم فتحي العاشق للسينما والمتذوق لها، ومثلما جوكر أخبرته أمه أن له وجها ضاحكا، كان فتحي ذو الوجه الضاحك قادرا على أن ينشر الضحك في كل مكان يحط به لآخر لحظة في حياته، وأن يسخر من الموت على مقاعد المآتم. ورحل أخيرا تاركا هذا الوطن الذي يعشقه ملطخا بالكآبة والدماء.

_____________________________

- مقالات الكاتب: سالم العوكلي