Atwasat

17- (القوندي)!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 يناير 2022, 05:33 مساء
محمد عقيلة العمامي

«نحن الأرانب لا نأكل أحدًا ولا نحب أن يأكلنا أحد». من أقوال صادق النيهوم.

هذا ما كتبته منذ سنوات وما زلت أرى أنه أساس لقرار سليم اتخذت منه قاعدة حياتية. لم أكن أنا فقط من الأرانب، ولكن كثيرين مثلي، مثلهم الأعلى: (الأرنب الكرتوني: Bugges Banney)، الذي لا يحب أن يصطاده أحد، أو يأكله أحد، المثابر والمجاهد من أجل المحافظة على جزرته، فما بالك بست جزرات، منها أربع طريات للغاية!.

وكنت وعدد من الرفاق، لعل الراحل عبد الحميد البرعصي، وطلوبه الريشي، ويونس البرناوي، وحسن الهنتاتي، وسالم الكيلاني، ورياض شنيب، وبقية رفاق الراحل محمد شمام يشبهونني تمامًا (ثوار) مثلي، شجعان، جهادهم اليومي، في مدرجات الجامعة، غايتهم التخرج، البرعصي ويونس غايتهما الرحيل، والهجرة للعلم والتعلم، كثيرون من جيلي بعيدون عن الجامعة ولكنهم عاصروا ما حدث في عهد المملكة ثم في بدايات ثورة سبتمبر: يوسف كويدير، خليفة الفاخري، حسن البرغثي (الطرشمانه)، عيسى مناع، عمر الساحلي، وكثيرون غيرهم، لم يكونوا مكبلين بالتزامات عائلية، كانوا أحرارًا تمامًا. كانت لهم أهداف شجاعة لا علاقة لها بالسياسة ومقارعة البنادق.

فهاجروا إما إلى الجامعات والعلم، أو لتحقيق هواياتهم وأهدافهم. كنت أحترمهم وأقدرهم، تمامًا مثلما احترمت الذين غامروا بأعناقهم وقرروا مقارعة النظام في الداخل والخارج، أغلب الذين أعرفهم كانوا معارضين بحق وحقيقة، ولكنْ كثيرون منهم لم يكونوا كذلك، أبدًا.

لم يكن خيار إلا في العمل الدؤوب من الفندق البلدي، أنتقي الخضار لتسويقها، في محلي الذي أصبح امتدادًا لقهوة سي عقيلة، خصوصًا في تجمع الرفاق، قبيل الانطلاق إلى غاياتهم الشبابية المتنوعة، ومن بعده محل قدوره خويا، الذي عندما أنزل من عربته صندوق فلفل أخضر حار، يعقب علي الريشي قائلًا: «انتبهوا قدوره ينزل في اللير!» ومع غلو أسعاره ظل للمحل زبائنه، حتى قرر أصحاب الملك، نيل نصيبهم من قانون التطوير العمراني فهدموا المبنى وشيدت العمارة. ثم أصبح شارع بوغولة، ساحة مناشطي، أعرض صورًا لمنتجات من العالم من خلال

الوكالات المتحدة التجارية، التي أسسها حامد الحضيري، ثم وكالة النصر، التي أسسها لنا، أعترف بفضله بعضنا، وأنكره آخرون، وكم كنت سعيدًا عندما استطعت إقناع بعض التجار بـ (السياقة) العملية التي كانت عجيبة وعملية في حينها، وهي التي أصبحت الآن من ضروريات أي بيت في ليبيا، إن لم أقل العالم كافة. لم يقتنع بها أحد، من التجار، سوى طيب الذكر محمدقصيبات، الذي قال لي إنه سوف يغامر بطلبية قيمتها ألف دولار، شريطة أن يكون هو الموزع الوحيد، ولما وصلت هذه الطلبية من ألمانيا، لم يمر شهر إلا وتزايد الطلب عليها بصورة جعلت مبيعاتنا منها آلافا وسريعاً ما انتشرت وكثر موردوها، وكذلك الدول المصنعة لها. أما جهاز (L21) الذي جاء به المرحوم محمد نبوس والذي مكنني من توزيعه، فكان مصدرًا حقيقيًا لرزق حلال استفدت منه كثيرًا. فالجهاز إيطالي ومهمته تقوية إيرال التلفزيون! وهكذا لم يخل بيت منه في ذلك الوقت. ثم زادت مبيعاته بعدما أوصله، عبر ليبيا إلى مصر، ثم لحقت به ساعات (سيتزن) بسبب الدعاية التجارية لها عبر إذاعة الشرق الأوسط، كان التجار يستوردون منها كميات تصل في صناديق خشبية، وتغادر في صناديقها إلى مرسى مطروح! كل ذلك قبل الانفتاح، في عصر الراحل أنور السادات، في مطلع سبعينيات القرن الماضي.

ذلك السعي اليومي الدؤوب، ما بين شارعي العقيب، ومصراتة نحو شارع بوغولة، لم يترك وقتًا كافيًا لحضور محاضرات سنتي الثالثة. فلقد عُدت من الدراسة الصيفية التي كانت الجامعة توفرها للطلبة الذين اجتازوا السنة الثانية، في قسم اللغة الإنجليزية، وهي التي تزوجت قبلها، وسافرتُ رفقة زوجتي مع الطلبة فكانت أشهرا للدراسة، والقليل منها القلق بسبب (الوحم) فلقد عدت، وزوجتي إلى بنغازي بثلاثة أرواح! وكان عليّ السعي وراء الرزق ومضاعفته، فلقد تضاعفت الأفواه. كل ذلك على حساب دراستي، ولكن الرفاق يتصدرهم صديق الطفولة والصبا والشباب، والكهولة التي لم نصلها على الرغم من أننا على أبواب الثمانين، عبد المجيد الدرسي الذي كان يعد نفسه ليكون معيدًا، وعلى الرغم من أنني كنتُ أول طلبته! إلاّ أنه فضل أن يكون مذيعاً، وكنا ننتظره ليلة تقديمه لأول نشرة أخبار، فاستهلها بالمقدمة، ثم أضاف كما هو متبع، ويقرأها عليكم عبد المجيد رمضان علي، لأنه حينها ألغيت أسماء القبائل! كان معنا تلك الليلة الدكتور مصباح عريبي، الذي أبعدته ثورة سبتمبر من عمادة كلية الاقتصاد والتجارة بقرار ظالم، فضحك، وقال ساخرا: «لقد منحوا مجيد اسم عسكري!» لأن الأسماء العسكرية كانت حينها من دون إضافة اسم القبيلة إليها.

وسريعًا ما أصبح، عبد المجيد الدرسي إعلاميا متميزا، وما لا يعرفه الكثيرون عنه أنه أول من قدم للعالم العربي الرسوم المتحركة بالعربية، فهو أول من ترجمها إلى العربية من خلال شركة إعلامية تولاها في ذلك الحين. أما الدكتور محمد فرج ادغيم فكان فضله لا ينسى، فالقسم كله أجانب من بريطانيا وأميركا، وليس لهم علاقة لا بسي عقيلة ولاببنياته، ولا بوحم زوجة محمد، فكان مرجعي في المواد كلها، أحيانًا يحاضر عليّ في مكتبه وأحيانا على كرسي من كراسي الحديقه، وأحيانا وقوفا، وكان ذلك ليس في مادته وهي الترجمة فقط، ولكن في المنهج كله. وأنهيت سنوات دراستي بإعياء ولكنه هان عندما نجحتُ وخف كثيرًا الحِمْل، والحَمل والوحم!

كل ذلك كان مسارًا واحدًا مع الحياة الليلية الأخرى، التي تختلف تماما عن مثاليات طلبة الجامعة، برفاقها من قبل الزواج، وتواصلت بعده، منهم الرجل العصامي المكافح الوطني العزيز مصطفى عمر الكرامي، الذي كان لي سندًا حقيقيًا، وعملنا سويًا في مجال المقاولات، وأذكر أنه بعد أن فرض على العمالة المصرية، ظلما، مغادرة البلاد، وارتباطنا بعقود مع البلدية، أصبح هو الأسطى الفني، وأنا عامله، أخلط العجنة وأناولها له، حتى أنجزنا رصف حديقة مدخل مطار بنينا. وأذكر أنني نبهته، ذات يوم، بضرورة العودة من بنينا مبكرا بسبب مشاغلي الأسرية

وأيضا الدراسية، سخر مني، وقال «وخيرنا أحنيِ – بكسر اليا- نلعب! هيا بلاِ ( خوشفه)، (قوندي) ياكل رمتك!». وإلى الآن، بعد مضي أكثر من نصف قرن، ما زلت لا أعرف ما هو (القوندي)! ولكنني أعرف أن مصطفى عمر الكرامي أحد أروع الرجال الذين أكرمني الله بمعرفتهم وصداقتهم، وهو الذي كنت وما زلت، كلما يخطر على بالي، بعد انتقاله إلى موقع رأسه في مصراتة مع أهله وذويه، أتذكر أبيات أحد شعراء المعلقات طرفة بن العيد الذي يقول فيها:

إذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِـي *** عُنِيْـتُ فَلَمْ أَكْسَـلْ وَلَمْ أَتَبَلَّـدِ
فَإِنْ تَبْغِنِي فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقَنِي *** وَإِنْ تلتمسني فِي الحَوَانِيتِ تَصْطَدِ
وهكذا كان خونا مصطفى عمر الكرامي.

_____________________________

- مقالات الكاتب: محمد عقيلة العمامي