Atwasat

الاجترار

صالح الحاراتي الخميس 13 يناير 2022, 11:19 صباحا
صالح الحاراتي

الاِجتِرار: (اسم) من المصدر اِجْتَرَّ
فنقول: لَمْ تَتَوَقَّف البَقَرَةُ عَنِ الاجْتِرَارِ، أي إعَادَةِ مَا فِي بَطْنِهَا وَمَضْغِه مَرَّةً ثَانِيَةً ..
هذه واحدة، أما المعنى الثاني:
عندما نقول إن مَا جَاءَ فِي كَلاَمِهِ مُجَرَّدُ اجْتِرَارٍ: أي إِعَادَةُ الكَلاَمِ نَفْسِهِ فِي كلِّ مَرَّةٍ

بالمعنى الأول - أي ما يحدث فى الحيوان - الاجترار قد يكون له شيء من الفائدة  فهو لأجل استخلاص آخر ما فى الطعام من مكونات مفيدة. وهنا نشير إلى أن الاجترار ليس عملية خاصة بالحيوان فقط ولكنها تحدث فى الإنسان أيضا، ولكن كحالة مرضية تسمى "متلازمة الاجترار"، وهي حالة يقوم فيها الأشخاص دون تعمُّدٍ بإعادة الطعام غير المهضوم أو المهضوم جزئيًّا من المعِدة، ويعيدون مضغه، ثم يعيدون بلعه أو يبصقونه.. ولأن الطعام لم يكن قد هُضِم بعد، فطعم الأكل طبيعي وليس حمضيًّا، مثل القيء، ويحدُث الاجترار بعد كل وجبة مباشرة بعد تناول الطعام".

ذلك حال الاجترار كأمر مرضى.

وبعيدا عن معنى الاجترار السائد، فإن ما استحضر لفظ اجترار فى عقلي هو معنى آخر متمثلٌ فى ظاهرة اجترار الماضي واجترار الأفكار القديمة المحنطة والعيش تحت عباءتها، وذلك بسبب الاعتقاد بصوابيتها المطلقة.

وأظن أن اجترار الماضى قد يكون ردة فعل وحالة مزاجية استجابة للفشل عندما يتعذر الوصول إلى الهدف المأمول، وذلك في تقديري ما هو مرضي ويستحق شيئا من الاهتمام.

وقد يكون الحنين إلى الماضى أمرا عادي ولا بأس به. ولكن التعلق به والانغماس فيه وعدم تقبل التغيير والتطورالذي يحدث في حياتنا أمر له أثر سلبي ويخلق حالة من الجمود ويعيق التفكير باتجاه المستقبل .

الحنين والعودة للماضي ليس شأنا خاصا بإنساننا فقط، بل هو حال وواقع بشرى متواصل منذ أقدم العصور، وغالبا ما يرغب البشر بالعودة إلى الماضي - رغم قسوته في كثير من الأحيان - لأن فيه أيضا ذكريات الطفولة والبراءة والأحباب والأصحاب الذين فارقناهم، وقد يكون فيه أيضا الكثير من الرؤى والأفكار الوردية والأوهام التى تجاوزها الزمن، والتي صاغتها البشرية على مر تاريخها الطويل كي تواجه من خلالها الكم الكبير من البؤس والحرمان الذي لاقته أثناء مسيرتها، ولم تعد اليوم ذات قيمة، فالماضي هو الوعاء الخازن لذلك الكم الهائل والمتناقض من كل شيء، ولذا فالعودة إلى أحداث الماضى يجب أن تترافق وتتزامن بنظرة عقلانية علمية فاحصة حتى نتمكن من فرز ما به من أخطاء وأوهام وحتى لا يتجسد أمامنا على أنه المنقذ لضياعنا الحالي، غير مدركين أنه المنبع والرافد الأساسي لهذا الضياع.

وأكرر القول بأن الحنين إلى الماضى واجترار أحداثه، ربما كان عبارة عن ردة فعل لمشاعر سلبية يعيشها الإنسان تجاه لحظات من الحاضر كمحاولة للهروب من الواقع، حيث يلجأ الإنسان إلى أن يعيش داخل سجن الماضي من أجل التخلص من سجن الحاضر المأزوم .

ولعل وسائل الإعلام ومناهج التاريخ التى تدرس فى المدارس والتى تملأ العقول يوميا بجرعات من الماضي العتيد والبطولات الوهمية لفرسانه الغابرين... تجعل العيش في الماضي ومحاولة استرداده المستمرة واستحضاره يزيد من سهولة قبوله كحل جاهز لكل المشكلات التي تعصف بنا، بل يبو وكأنه الطريق الأسهل والأقل عناء !!

ويبقى السؤال المهم : ما الذي نجنيه من العودة للماضى واجترار بطولاته الوهمية وعيش المواطنين داخل سجن الماضي؟

وما هي المنافع التي سنجنيها تحت عباءة ما اجترحه عقل الأموات!

الجواب بكل بساطة أنه الطريق الأسهل - لأولئك الذين ينادون باجترار الماضى - للسيطرة على عقول الناس وإخضاعهم... ورغم ما يدعيه هؤلاء من اختلاف في رؤيتهم لبناء الدول غير أن شيئا واحدا يجمعهم، هو أن الحاضر بكل ما يحمله من تطور وعلم وتكنولوجيا، ليس هو الواقع الذي من المفترض أن تعيشه الشعوب إنما وهم العودة إلى عصورالسلف الأوائل باعتبار أنه هو العصر الذهبي الذي تجب العودة إليه رغم كل ما يحمله من أساطير وخرافات وتناقضات وظلم وامتهان للعقل وللإنسان.

إن الإنسان المحاصر بقضبان الماضي والمقاد بسحر ومثالية شخصيات التاريخ الوهمية - بينما هو يعيش الواقع بكل ما يحمله من بؤس وحرمان - لا يجد عزاءه الا بالأموات، راسما صورته الوردية عن حياتهم وبطولاتهم، مستلهما من خلال ما كتبوه أو كتبه عنهم الآخرون شكل الحياة المثالية التي يطمح إلى أن يعيشها.

الحاضر بائس والرؤية ضبابية للمستقبل، وذلك ما يخلق فى النفوس القلق والخوف من المجهول، وعند ذاك قد يجعل الإنسان الأموات ملجأه الأخير حتى وإن كان ذلك اللجوء يولد حلولا وهمية وعواقب وخيمة.

كلما لاحت حقيقة الأحداث التاريخية وتبين زيفها وتناقضها صرت لا أحب التاريخ وأحداثه المزيفة.. وحتى الأحداث القريبة يتم تدوينها بالغش والكذب والتزوير، والمؤسف هو هروب "ناسنا" و"نخبتنا" أيضا إلى الماضي ..

وأنا لا أعرف حتى اللحظة ما هي قيمة "الانهماك" والعراك على روايات الماضى الكاذبة.

_____________________________

- مقالات الكاتب: صالح الحاراتي