Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا (1908-1969) (18)

سالم الكبتي الأربعاء 12 يناير 2022, 11:23 صباحا
سالم الكبتي

ولم يكن البرلمان، بمجلسيه، وحده في الاعتراض من قبل مجموعة من نوابه وشيوخه على الاتفاقيات والمعاهدات مع بريطانيا والولايات المتحدة. فقد تلازم ذلك أيضا مع رفض لهما في الشارع الليبي على مستويات عديدة قبل عرض مشاريع الاتفاقيات على البرلمان أو أثناء العرض أو بعده. تناولت الموضوع الصحف وكتب الكتاب مقالاتهم ونظم الشعراء قصائدهم اعتراضا ومعارضة للاتفاقيات.

وكان ذلك في الواقع يشكل رأيا عاما لم تقابله السلطات، في الغالب، بأية مواجهات شديدة تذكر. وزعت العديد من المنشورات في بنغازي وطرابلس ولاحقت الجهات الأمنية من يقوم بالعمل وتحفظت عليه. مجرد تحقيقات واشتباهات ثم إطلاق السراح.

ويقع في صدارة هذه المنشورات واحد أعد وطبع في بنغازي بطريقة سرية ووزع على نطاق واسع داخل المدينة ثم وصل أيضا إلى طرابلس بتنسيق مع بعض مجموعات العمل هناك. هذا المنشور صدر دون توقيع من الجهة التي قامت به أو كانت وراءه وكان عنوانه صريحا وواضحا في مربع أعلى المنشور يتضمن الأتي.. (الدعوة إلى إضراب عام في جميع أنحاء البلاد يوم السبت 29 أغسطس 1953) وقد ورد في نصوص المنشور: (يارجال محمد.. يافتية العروبة.. يا أبناء ليبيا الأمجاد.. إليكم أيها الشيوخ يافرسان الوغاء وأساتذة الكر والفر. إليكم أيها الكهول يارجال الملاحم وأبطال النضال والنزال. إليكم أيها الشباب يا فدية الوطن وخلائف السويحلي والباروني والمختار. إليكم جميعا أيها الأحرار نوجه هذه الصرخة المدوية وإنا لمؤمنون أنكم للكرامة المداسة ستثورون وللنضال للحق المسلوب ستهبون.

ألا ويحكم هبوا.أن أرواح أبائكم الذين وقعوا في ميادين الوغى تستصرخكم اليوم من علياء السماء. أن المغرب ومصر والشرق العربي ينظر وثبتكم لتفكوا هذا العمل الذي يدفع به إلى حبائل مناورات إنجلترا الفاجرة. أيها الليبيون. أن4 وطنكم يدعوكم على مختلف طباقتكم أن تعبروا عن سخطكم عن هذه المعاهدة بإضراب عام ابتداء من فجر يوم السبت 29 أغسطس 1953 إلى فجر يوم 30 منه. وإن تنصروا الله ينصركم. والله ولي التوفيق).

ومن بين هذه الاعتراضات على المستوى الشخصي من بعض الأعيان والأفراد أرسل الشيخ محمد سيف النصر، أحد وجهاء أولاد سليمان وشقيق السيد حمد سيف النصر والي فزان، رسالة طويلة مؤرخة في الحادي والثلاثين من يوليو 1953 إلى السيد إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية ورد فيها: (أخي العزيز. حملت أسلاك البرق والصحف نبأ تلك المعاهدة الليبية البريطانية التي تمت أخيرا.

هذه المعاهدة التي تضع البلاد تحت نير الاستعمار والاستعباد وتطيل يد الأجنبي وتعطيه الحق في استعمال أراضينا لأغراضه وأهدافه وتنقص من حريتنا وسيادتنا واستقلالنا. هذه المعاهدة نحن في غنى عنها وإذا اقتضت الظروف وعجز الميزانية لأن نمد يدنا إلى غيرنا فالأجدر بنا أن نمد يدنا إلى شقيقتنا مصر التي نادت ولم تزل تنادي بتقديم كل معونة إلى ليبيا سواء كانت هذه المعونة مالية أو فنية وليس لها هدف تبتغيه من ليبيا سوى حماية شقيقتها ومعاونتها على المحافظة على استقلالها.

إذا كان هذا العمل من أشخاص غيركم فإنكم قادرون على انتزاع الحكم منهم وتولية من لا يرضى أن يفرط بحق البلاد وسيادتها وحريتها واستقلالها وبيدكم المحافظة على الاستقلال وعدم التفريط فيه).
وعلى ضفاف النيل هناك.. في القاهرة التي كانت حكومة الثورة فيها رفضت أو اعتذرت عن طلب الحكومة الليبية مساعدتها اقتصاديا وفنيا وماليا قبل الشروع في إجراءات توقيع وتنفيذ المعاهدة (كانت الحكومة الليبية تعرف وجود القوات البريطانية فوق الأراضي الليبية في العموم منذ أيام الحرب العالمية الثانية ولذلك طالبت الحكومة البريطانية بدفع الإيجارات والمساعدات نظير هذا التواجد فعقدت المعاهدة).. هناك في القاهرة عقد الطلبة الليبيون الدارسون في المدارس الثانوية والجامعات المصرية (القاهرة. إبراهيم وهي عين شمس لاحقا. الأسكندرية) مؤتمرا عاما بحثوا فيه الحالة القائمة في ليبيا تلك الأيام نتيجة لعقد المعاهدة مع بريطانيا واتخذوا عدة قرارات من بينها:

1. دعوة الشعب الليبي إلى الوقوف صفا واحدا ضد المعاهدات التي عقدت أو ستعقد مع دول الاستعمار بواسطة عملائهم من الخونة.
2. مطالبة ملك ليبيا بحل البرلمان الحالي الذي أثبت عدم محافظته على استقلال الوطن ومصلحة البلاد وإجراء انتخابات حرة نزيهة.
3. استنكار الاعتداءات الوحشية التي وقعت من جنود الاستعمار على الأهلين في طرابلس وفزان.
4. مقاومة جميع القوانين والقيود التعسفية المفروضة على الشعب وعلى الطلبة الليبيين في الخارج.
5. دعوة الشعب الليبي إلى الإضراب العام استنكارا على الاعتداءات الاستعمارية وإعلانا على مواصلة الكفاح من أجل تحرير الوطن.

وأبرقوا بهذه القرارات وغيرها إلى الملك ورئيس الوزراء ووزير الخارجية وإلى اللجنة السياسية بالجامعة العربية بمضمونها لافتين نظر اللجنة إلى ضرورة معارضة المشروع الاستعماري الرامي لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا!!

كما أرسلوا باسمهم رسالة مفصلة مؤرخة في الحادي عشر من سبتمبر 1954 إلى السفير الليبي في القاهرة وكان السيد إبراهيم أحمد الشريف السنوسي أبلغوه فيها بمواصلة كفاحهم وربطه بجهاد الشعب الليبي ورفضهم لتزوير الانتخابات وتكوين برلمان مزيف لايمثل الشعب الليبي وللمعاهدة التي وقعت مع بريطانيا والتي ستوقع في المنظور القريب مع الولايات المتحدة وطلبوا منه أن يكون في مقدمة المجاهدين الذين ضحوا بحياتهم من أجل تحرير ليبيا واستقلالها (كوالدكم وسلفكم الصالح).

وبتاريخ الثاني والعشرين من سبتمبر 1954 أرسل القائم بالأعمال في السفارة الليبية بالقاهرة إلى وزير الخارجية ببنغازي برقية تتعلق بالتداعيات السابقة ورد فيها.. (إلحاقا ببرقيتنا المرسلة يوم 17 الجاري نتشرف بالإفادة أن الطلبة الثلاثة الطشاني والمسعودي والمعلول وهم الذين سبق لحكومة ليبيا في شهر مارس 1953 أن طلبت إبعادهم من مصر قد أمرتهم الحكومة بمغادرة البلاد سواء إلى ليبيا أم إلى غيرها.

وقد قاموا ببذل مساعي جبارة لإبطال هذا الأمر والذي علمته أن عزام باشا والسفارة السعودية وشخصيات أخرى قد تدخلوا لدى السلطات المصرية للحيلولة دون سفر المذكورين ونعتقد أن الحكومة المصرية جادة في هذا الموضوع حيث أنها طلبت كشفا بأسماء الطلبة الليبيين لمراقبة نشاطهم وقد يكون انتماء البعض للأخوان المسلمين من الأسباب التي جعلت الحكومة في التشدد مع أولئك الذين يبدون نشاطا خارج دائرة تعليمهم. وسنوافيكم بما سوف يجد في هذا الأمر.

يوم الخميس الموافق للسابع والعشرين من مايو 1954 كان قد صدر العدد الأول والوحيد من مجلة (المعركة) أصدره في القاهرة وحرره الطلبة: فاضل المسعودي صاحب الفكرة والمؤسس مع زميليه محمد عمر الطشاني وفريد أشرف. هذا العدد النادر الوحيد جاهر بالنقد المباشر والقاسي للمعاهدة البريطانية الليبية واعترض مسبقا على التجهيز والإعداد للاتفاقية الأمريكية التي كانت يومها قيد التوقيع بين الحكومتين الليبية والأمريكية.

وإضافة إلى كل ذلك وفي سياق الاعتراضات البرلمانية والشعبية على الاتفاقيات في تلك الأيام فقد ساد نقاش صاخب أيضا بين مجلس النواب والحكومة حول المعاهدة الليبية الفرنسية وكانت هناك استجوابات واعتراضات عديدة من النواب صالح بويصير وعبدالعزيز الزقلعي وعبد الرحمن القلهود وعلي تامر ومصطفى ميزران ومصطفى السراج واستغرق هذا النقاش جلسات عديدة عقدت بعضها سرية ووصل الأمر إلى إعلان رئيس الوزراء مصطفى بن حليم أثناء إلقائه خطاب العرش أمام البرلمان في افتتاح دورته الجديدة يوم التاسع من ديسمبر 1954 أن.. (الحكومة قامت بخطوات إيجابية لتحقيق رغبات الشعب الليبي المتمثلة في قرار مجلسكم الموقر بعدم تجديد الاتفاقية الفرنسية وأن الحكومة لن تسمح باستمرار بقاء القوات الفرنسية في أي جزء من أجزاء الوطن العزيز).

ثم أخذ الموضوع منحى آخر انتهى بعرض المعاهدة مع فرنسا في نصوصها الجديدة في مارس 1956 وعرضت على مجلسي الشيوخ والنواب ونالت موافقة تكاد تكون بالإجماع عليها من المجلسين المذكورين. وجلت بعد ذلك القوات الفرنسية من قلعة سبها في نفس العام في ما سلمت مطاري غدامس وغات إلى الحكومة الليبية عام 1963 المؤجرين لصالح فرنسا قبل ذلك التاريخ. وكانت المعاهدة أيضا نظمت في نصوصها مايتعلق بالحدود والأراضي المتجاورة وقت أن كانت الجزائر محتلة من فرنسا.

وسيظل موضوع الاتفاقات يعرض على البرلمان ويناقشه وقد حدث ذلك بعد عشر سنوات عام 1964 عندما دعا عبد الناصر ليبيا في خطابه يوم ذكرى الوحدة مع سوريا في 22 فبراير من العام المذكور إلى إجلاء القواعد عن أراضيها وبادرت الحكومة بالاستجابة إلى هذا الخطاب وتشاء الصدف أن يكون رئيسها السيد محمود المنتصر الذي كان هو الرئيس الذي وقعت حكومته المعاهدة مع بريطانيا عام 1953.

وشرعت حكومته في المفاوضات المباشرة مع بريطانيا وأمريكا وشهد البرلمان جلسات عديدة بشأنها مع الحكومة وأبدى فيها الكثير من النواب آرائهم بضرورة الجلاء وتحقيق المطالب الشعبية لتنفيذه وقرر بالإجماع الموافقة على ذلك. وبالفعل قامت بريطانيا بسحب قواتها من بعض المعسكرات في طرابلس وبنغازي.

_____________________________

- مقالات الكاتب: سالم الكبتي